أنهت قمة الدوحة أعمالها، وبدأت خفايا صراعاتها ترشح من بين جدران القنوات الإعلامية. أهم تلك الأخبار كان مستوى تمثيل الوفد المصري، حيث تغيب الرئيس المصري محمد حسني مبارك عن المشاركة، وأناب عنه وزير الدولة للشئون القانونية والمجالس النيابية أمام لجنة الشئون العربية في مجلس الشعب مفيد شهاب.
من بين الأسباب التي أدت إلى عدم مشاركة الرئيس المصري، كما قال مفيد شهاب إنها رسالة للدفاع عن كرامة مصر التي «لن تسمح مصر بالمساس بها أو العمل ضدها وتشويه صورتها في المحافل الدولية».
وأضاف إلى ذلك أن «مصر تيقنت من وجود مخطط ضدها، وهو مستمر منذ فترة طويلة يهدف للإساءة إليها، وهي تقوم بدورها».
قبل هذه القمة الأخيرة، كانت الدوحة قد دعت إلى قمة استثنائية، وغابت عنها مصر أيضا، ورشحت حينها تصريحات من مسئولين مصريين، وعلى مستوى عال، إن مصر حاولت من خلالها أن تؤكد أن الموقف المصري كان يهدف إلى إفشال القمة، وحرمان قطر من أن تتمتع بوضع مميز على خارطة العلاقات الدولية.
ليس القصد هنا الدفاع عن السياسة القطرية، ولا القول بأن كل ما تقوم به الدوحة لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه. الهدف هنا إلقاء الضوء على بعض الأفكار التي يراها بعض من هم في مراكز صنع القرار في مصر إنها صحيحة، هؤلاء الذين لا يزالون يعيشون بذهنية القرن الماضي، عندما كانت مصر محور العلاقات العربية، ومركز صنع القرار بشأنها. وبالمقابل كانت العديد من الدول العربية، لا تزال أما تحت الهيمنة الاستعمارية المباشرة، أو تحت الوصاية القريبة جدا من الحالة الاستعمارية.
ولفهم خلفيات وآفاق الموقف المصري من الكثير من الأنشطة العربية المشتركة الراهنة، وعلى وجه الخصوص، تلك التي تحتضنها إحدى العواصم الخليجية، لابد من تسليط الأضواء على الحقائق التالية:
1. العقلية المصرية التاريخية القائمة على أن القاهرة هي مركز التقدم الحضاري على المستوى العربي، وما سواها لا يعدو كونه حالة تابعة أو مكملة في أحسن الأحوال. تستند مصر في ذلك إلى تاريخ مصر القديم، بما فيه التاريخ الإسلامي، دع عنك التاريخ الموغل في القدم، والذي يأخذنا إلى الحقبة الفرعونية.
هذا التقدم الحضاري، يقابله، وهو أمر مترسب بشكل راسخ في الذهنية المصرية، تخلف نسبي، وخاصة في دول منطقة الجزيرة العربية، حيث استمرت البداوة، و»التخلف» من وجهة النظر المصرية، مسيطرة على المجتمعات الخليجية حتى فترة قريبة.
2. النزعة الاستعلائية المستمدة من مكانة مصر الاستراتيجية التاريخية، من حيث الموقع الجغرافي الواصل بين قارتين استراتيجيتين بالمنظور التاريخي، وهما إفريقيا وآسيا، والسكاني الذي يجعل مصر مضاهاة، بل وحتى تحدي، أكبر دولة عربية أخرى، فما بالك بدول ذات كثافة سكانية مخلخلة من مستوى الدول الخليجية، وخاصة عندما يصل الأمر عند دولة صغيرة من حجم قطر.
3. الذهنية الفوقية التي تتحكم في السلوك المصري، والقائمة على استئثار مصر، تاريخيا، بالمناصب المفصلية والقيادية في المؤسسات الإقليمية العربية، مثل جامعة الدول العربية.
هذا ما جعل مصر تستخدم كل الأسلحة السياسية والعلاقات الدولية التي بحوزتها، وبكل ما تملك من قوة من أجل عودة الأمانة العامة للجامعة العربية من تونس بعد رحيلها إليها في أعقاب الصراعات التي ولدها التوقيع على اتفاقيات كمب ديفيد بين مصر و»إسرائيل».
هذه الذهنية هي التي تحرض مصر وربما قيادتها على رفض أي خروج للجامعة العربية أو أي من أنشطتها من تحت عباءتها، والوقوف ضد، وفي وجه، أية محاولة تسعى، من وجهة النظر المصرية، إلى تهميش الدور المصري، أو تغليب موقع دولة على الموقع المتقدم الذي تحتله مصر.
فهم هذه الدوافع والخلفيات، يكشف أن الموقف المصري المتصلب الهادف إلى إحباط أي لقاء عربي «لا يستوفي الشروط المصرية»، قائم على فرضيات تاريخية واهمة لم تعد قائمة. فمصر اليوم ليست مصر الأمس، والدول الخليجية بوضعها الحالي، لم تعد تلك المحميات البريطانية التي كانت بالأمس.
لقد تمكنت الدول الخليجية، كدول أن تبني لحكوماتها علاقات متينة، حتى عندما تقارن بتلك العلاقات التي تملكها مصر اليوم، الأمر الذي يبيح لها أن تكون صاحبة قرار، حتى عندما يتعلق الأمر بقرار إقليمي عربي ضمن إطارات الجامعة العربية.
ويمكننا أن نستخدم هنا قرار حظر النفط العربي الذي تزعمته الدول العربية الخليجية، ضد الدول التي دعمت «إسرائيل» في حرب العام 1973، مثالا حيا على تنامي حجم الدور الخليجي وبالمقابل تراجع حجم الدور المصري.
الأمر الأخير الذي ينبغي أن يخرج بعض أصحاب القرار في مصر من صومعة أوهامهم تلك، هي أن الدول الخليجية، عندما تواجه تحديا كذلك الذي واجهته قمة الدوحة، يمكنها ان تميل قليلا كي ترتكز على منظمة إقليمية حققت، وفي فترة قصيرة نسبيا مقارنة بما حققته جامعة الدول العربية، نجاحات على مستوى العمل الإقليمي العربي المشترك يفوق كثيرا ما حققته الجامعة، بل إن مصر تحاول، كما شاهدنا بعد قمة الكويت، أن تنال موافقة الدول الخليجية على التوقيع على اتفاقيات تجارية مشتركة معها لم تستطع مصر من توقيعها مع دول عربية أخرى.
قد تنجح مصر في إضعاف بعض الأنشطة العربية التي تتبناها دول خليجية. لكن هذا الإضعاف لن يعدو كونه إضعافا مؤقتا، وبتأثيرات باهتة، وهو ما لمسناه من نتائج مؤتمر الدوحة.
وفي نهاية الأمر، وإذا ما أرادت مصر أن تمارس دورها القيادي على المستوى العربي، فأول خطوة على هذا الطريق هو نزع تلك الأوهام من ذهنيتها قبل فوات الأوان.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2404 - الأحد 05 أبريل 2009م الموافق 09 ربيع الثاني 1430هـ