"السلام والحرية لا يمكن أن يستمرا في العالم إذا لم تقم الولايات المتحدة بالقيادة الدولية، وسواء أحببنا أم كرهنا فإن مهمة القيادة تقع على عاتق الولايات المتحدة. إن القوة هي التي تدفع العالم صوب الخير أو الشر، وعلينا أن نكف عن الإحساس بالذنب بسبب أننا الأقوى".
ريتشارد نيكسون
الرهان الذكي، يمثل حالا من المغامرة المقصودة، إلا أنها مغامرة تتصف بتوافر مقومات النجاح، والمراهن الذكي هو من يقوم بحلحلة الأجواء المحيطة بكل عملية، وهو من يجيد الاختيار الصعب في التوقيت الأصعب. السؤال هو، كم مرة خسر الأميركيون معركة ما؟ لابد من التنبه الى أن الفترات التي منيت فيها الولايات المتحدة بالهزائم، كانت فترة خاضعة للسياسة الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذه الفترة لها خصوصيتها الكونية، أما بعد هجمات سبتمبر/ أيلول، فأعتقد أنه من الصعب أن تدخل الولايات المتحدة منطقة صراع تحتمل فيه الهزيمة، مثل أن تنسحب ذليلة كانسحابها من فيتنام، أو أن يسقط أحد رهاناتها الكبرى في فخ اللامتوقع، كما سقط شاه إيران.
الولايات المتحدة كانت تصعد على درج الإمبراطورية متثاقلة، فتهزها الريح بين فترة وأخرى، ذلك أنها كانت تحاول أن تتفرد بالقرار الدولي داخل منافسة اقتصادية وإقليمية مضطربة، أما اليوم فهي تصعد الى هرم الإمبراطورية عبر سلم إلكتروني، وتحت غطاء واسع، ويتصف بالإقناع "الإرهاب". غطاء الإرهاب كلنا نفهمه، أو عانينا منه، وكلنا يخاف من أن تنزل عليه ويلاته، بالقدر الذي يخاف من أن يتهم به.
الولايات المتحدة تسعى إلى مزيد من النمو والتحكم بالنظم العالمية، ومفهوم الإرهاب تم تطويره أكثر من مرة، ليشمل القضاء على الأفراد مثل "بن لادن، صدام حسين"، وهو ما قد يتيح ضمنيا دخول أو احتلال دول مثل "أفغانستان والعراق".
الإرهاب أنتج حتى الآن الكثير من المشاهد السياسية المهمة، "تحرير أفغانستان والعراق"، "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، "اتفاقات التجارة والمناطق الاقتصادية الحرة"، "انضمام الدول العربية النفطية إلى منظمة التجارة الدولية"، جميع هذه المشاهد السياسية يتم توظيفها ببراعة لتكون نتيجة للإرهاب، أو ردا عليه، أو وقاية منه. ونقطة الاتصال والترويج والتموضع، هي خوف الدول من أن تتهم بالإرهاب، سواء حين تحاول إغلاق طرقها السياسية أو الاقتصادية أو التجارية أمام الأميركيين، أو حين تحاول على أقل تقدير أن تكون محايدة.
لم تعد الولايات المتحدة تحتاج فعلا إلى مبررات لمثل هذه الاتهامات، فلديها جهاز مخابرات أصابته لوثة كذب شرقية، وأندادها الأوروبيون لا يستطيعون تهميش أصوات إمبراطورياتهم الاقتصادية أمام برامج إعادة الإعمار لما تهدمه شركاتهم الصديقة في الولايات المتحدة. فأصبح النظام العالمي الجديد يقوم في جانبه الاقتصادي على ما تنتجه سياسات الإرهاب. فالإرهاب أصبح دعامة اقتصادية في صورة معقدة، وغير مفهومة.
يتصف النظام العالمي اليوم بالديناميكية، وهذه الديناميكية تعطيه القدرة على استقبال جميع الصور والمشاهد والحوادث الكونية بقابلية جيدة للاستثمار. بمعنى كيف يمكن للنظام الكوني الجديد أن يجعل من الأزمات فرصا استثمارية وتنموية مهمة. كيف له أن يجعل من جميع الحوادث ذات الطابع السلبي مدعاة للإنتاج والاستثمار.
الإرهاب بوصفه استثمارا
خسائر الأميركيين في حوادث سبتمبر كانت تقدر بالمليارات، إلا انها استطاعت عبر حروب رد الاعتبار والكرامة والتصحيح والتهديد والاحتلال والتحرير والإصلاح والانتقام أن تحول خسائرها المليارية الى أرباح ترليونية. ويلعب الإرهاب في هذه الرؤية الإمبراطورية دور المشرع والسبب والمتخوف منه والمصلحة الكونية التي لابد من تحقيقها.
قد تتعاضد هذه الرؤية مع مفهوم البراغماتية الأميركية، إلا أنها طبعا براغماتية حديثة، إذ أإن البراغماتية لا تعتمد على الانتقام، فهي تقرأ المستقبل عبر مقومات الحاضر ومصالحه، إلا أنها في البعد الإمبراطوري الجديد تشوهت وأصبحت تحتمل في داخلها فلسفة الانتقام.
الإرهاب لم يعد صورة وهمية، وإذا كان البعض يعتقد أن الإرهاب يمثل خطورة خاصة لأنه عدو مجهول، فإن الولايات المتحدة تنبهت داخل منظومتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية إلى هذا الاشكال، وصيرت الإرهاب في مضامين وجودية قارة وثابتة، وكلما اختلفت الآراء في تحديد صدقية الادعاء والتصنيف لهذه المضامين، كلما كانت الولايات المتحدة موغلة كل يوم في التصدر والسيادة والهيمنة والتملك والتفرد بالقرار الكوني.
الإرهاب على وزن الإمبراطورية يتمثل في صور محددة المعالم، هذه الصور تحاول التناغم الطويل مع نمو السوق والاستقرار في مناطق السوق العالمية الفاعلة، وهو تحديدا البقاء داخل منظومة البنك الدولي، ومنظمة التجارة الدولية، وهي ما يكفل الاستقرار في نمو الاقتصاد الأميركي، ونمو الأرباح لعشر شركات متعددة الجنسيات تتحكم في ما نسبته 65 في المئة من مجمل التعاملات التجارية والاقتصادية الدولية.
ليست الحقيقة في التوظيف الأميركي للإرهاب إمبراطوريا، هي محاولة تقليدية لصناعة ذرائع مقبولة للرأي العام العالمي، بقدر ما هي محاولة ذكية في جعل الإرهاب هما كونيا عالميا، بمعنى أن يكون الإرهاب بشتى تمثلاته، وعبر جميع طرق مقاومته، معبرا للإمبراطورية، فحين نحارب الإرهاب أو حين نتعرض له، لابد لنا أن نتحالف مع الولايات المتحدة، وحين نقوم به، فهي من نستطيع أن نتحالف معها فيه سرا، ولعل مجمل هذه الرهانات، أنها دائما رهانات ناجحة. فلم يعد العالم بعد حوادث سبتمبر يخضع للمعقول أو المتعارف عليه، بل ثمة إضاءات أخرى تملأ المكان.
* كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 965 - الأربعاء 27 أبريل 2005م الموافق 18 ربيع الاول 1426هـ