عندما كنت ألتقي أحدا من الصحافيين أو الإعلاميين من خارج البحرين، ويجري الحديث عن هذا البلد الذي اختار "الإصلاح" قبل حوادث سبتمبر/ أيلول، والذي تتجدد أخباره بين حين وآخر، بعضها يسر وبعضها يضر، كانوا كثيرا ما يسألون عن التفاصيل، إذ يتصورونه بلدا مترامي الأطراف تجري من تحته الأنهار، وفيه من البراري والجبال والواحات، ما تتيه فيه العقول، فكنت أقول لهم: لو زرتم البحرين لما احتجتم لأكثر من ثلاثة أيام لزيارة كل زاوية فيها، بلدنا مثل الجزرة، كثافة سكانية في الشمال، ثم تنساب على الطرفين الغربي والشرقي، والوسط، ثم ثلث مساحة البحرين بر خال تقطعه في نصف ساعة، والجزرة كلها يمكنك أن تقطعها بالسيارة من الرأس إلى الذيل في ظرف ساعة ونصف الساعة فقط، من رأس الحد إلى رأس البر! أليست هذه جغرافية بلادنا باختصار؟ على أن هذه الجزر الجميلة المتناثرة في قاع الخليج، تحتوي في باطنها كنوزا لم يتم اكتشافها، وما هو ظاهر من الكنوز لم يدرك المعنيون بعد أهميته، فنحن مازلنا نتعامل مع آثارنا على طريقة "اللي ما يعرف الصقر يشويه". وحتى الآن لم نرتق بوعينا كجيل من المسئولين، إلى درجة الإحساس بالمسئولية الوطنية التي تقضي بالحفاظ على آثار البلد وحملها أمانة نسلمها إلى الأجيال التالية.
الأجداد لم يكن لديهم ذلك الوعي التاريخي و"الآثاري"، ولكنهم مع ذلك سلموها إلينا على طريقة "رب حامل فقه لمن هو أفقه منه"، ويحسب لهم أنهم لم يعبثوا بها أو يفكروا في إزالتها وتدميرها، فقد عاشوا قرونا متعايشين مسالمين لبيئتهم، حتى انتهت الأمانة إلى أيدي هذا الجيل العاق.
والجريمة الكبرى التي تورط فيها جيلنا المتعلم من خريجي جامعات أوروبا وأميركا، هو هذا التدمير الممنهج للآثار وبالتالي لتاريخ البلد، وبروح غير مسئولة على الإطلاق. ومن المحزن أننا في الوقت الذي سنحتفل اليوم بافتتاح قلعة البحرين بعد نهوضها من كبوتها وخروجها من بين الأتربة والركام، فإن هناك كنوزا أخرى مازالت تتلاعب بها الأيدي العابثة والمصالح الضيقة. وقصة مقابر عالي أكبر الفواجع في هذه الحكايات المحزنة، ففي الوقت الذي كان المسئولون يؤكدون للأهالي أنهم لن يمسوا القبور التاريخية، كانت جرافات المتنفذين ترسل ليلا لإزالة "أكبر مقبرة قديمة في العالم".
المواطن العادي أصبح أكثر وعيا وحرصا على الحفاظ على آثار الوطن، بينما يصم المسئولون آذانهم عن التجاوزات والتعديات عليها، وعندما طرح الموضوع للنقاش في البرلمان، كان رد وزير الإعلام السابق مجرد كلمات خفيفة، سرعان ما أزالتها الجرافات في الليلة نفسها مع ما أزالته من قبور.
ومقابل هذا الاهمال "الرسمي" حاول الأهالي "البسطاء"، وبدافع من الشعور بالمسئولية والحب والولاء للوطن، حاولوا تشكيل لجنة أهلية للمحافظة على قبور عالي، بل وفكروا في تقديم شكوى إلى اليونسكو بشأن ما تتعرض له القبور من انتهاكات حولت قبور الموتى المحفوظة عبر الأحقاب إلى ممتلكات خاصة لبعض المتنفذين.
ومع الاحتفال اليوم ببعث القلعة من جديد، سيكون أكثر المسرورين بهذا الحدث المواطن العادي الذي يهمه البلد ومستقبله، ويضع يده على قلبه كلما شاهد انتهاكا لموقع أثري أو عين تاريخية أو معبد قديم أو قبر يجري استباحته. والمهتمون بالآثار وعشاق التاريخ والمثقفون ستفرحهم جدا هذه النقلة التي ستضع القلعة ضمن سجل التراث العالمي لدى اليونسكو.
القلعة انتهت مأساتها، وخرجت من بين الركام لتفرض نفسها على خريطة الآثار العالمية المهمة. وفي ذلك درس بليغ، ينبغي أن ينبه الجميع إلى ما تتمتع به هذه الجزر من أهمية على الخريطة، ليس من باب الكثافة السكانية أو المداخيل النفطية أو العمارات الشاهقة، وإنما من هذا الغنى والتنوع والعمق التاريخي الباهر. فنحن في هذا البلد لا نجلس على بحيرة من النفط، وإنما نجلس على كنوز لم نعرف بعد قيمتها، وكل عبقريتنا هي في بناء الشقق المفروشة وشواء الصقور
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 964 - الثلثاء 26 أبريل 2005م الموافق 17 ربيع الاول 1426هـ