بدأت معالم الصيف الساخن اللاهب، الذي بدأنا الحديث عنه في المقال الماضي تتضح شيئا فشيئا. .. فهذا هو "الاحتباس الحراري" بفعل ثقب الأوزون، وبفعل التلوث، يخنق الطبيعة من حولنا.
وها هو "الاحتباس الديمقراطي" يزحف معه جنبا إلى جنب، لكن هذه المرة بفعل أعداء الحرية، الذين يريدون خنق كل صوت يطالب بحقه في حياة كريمة، وحريته في أن يعبر عن رأيه.
والمؤسف أن يبقى المشهد الصحافي هذه الأيام، في مقدمة ضحايا اختناق الاحتباس الديمقراطي، على وقع زيادة قضايا جلب الصحافيين والكتاب إلى قاعات المحاكم، وصدور أحكام مشددة بحبس الكثير منهم، أو إغلاق وتعطيل صحفهم، من المغرب والجزائر غربا، إلى مصر واليمن شرقا، بل من المحيط الذي كان هادرا إلى الخليج الذي كان ثائرا، لا فرق!
ومن ملف المتناقضات في المشهد الصحافي المصري خصوصا، أن يتزامن صدور حكم قضائي بسجن ثلاثة زملاء صحافيين "من صحيفة المصري اليوم المستقلة" قبل أيام في قضية رفعها أحد الوزراء ضدهم، مع موجة تفاؤل واسعة بقرب تطبيق إصلاحات ديمقراطية، تطلق بعض الحريات وتزيل بعض القيود المفروضة على حقوق المواطنين وحرياتهم، ومن بينها طبعا حرية الصحافة والرأي والتعبير، تخفيفا لهذا الاحتباس والاحتقان!
وبقدر ما يحمل الحدثان، حبس الصحافيين والتفاؤل الإصلاحي، من تناقض جوهري، لأن الأول يقيد الثاني وربما يجهضه نهائيا، بقدر ما حاولت كتائب المبررين الادعاء بألا تناقض في الأمر، فالقانون يسري على الجميع!
نعم، القانون يجب أن يسري على الجميع، وأتمنى لأجيال من بعدي أن تعيش زمن المساواة أمام القانون، لكن يجب أولا أن يكون القانون عادلا وديمقراطيا ومنفتحا، وأن يكون القضاء الذي يحكم وفق هذا القانون مستقلا ونزيها تماما، وحين يتوافر الشرطان السابقان، لن تكون أمامنا أو أمام غيرنا فرصة للاحتجاج على ظاهرة حبس الصحافيين وأصحاب الرأي، في قضايا النشر، لأنها عقوبة سالبة للحرية، سقطت في كل الدول الديمقراطية وشبه الديمقراطية منذ أزمان، ويجب أن تسقط عندنا الآن!
يلفت النظر بقوة، التعمد الواضح من جانب قوى معادية للديمقراطية تعيش في الدهاليز الحكومية المغبرة، لتسخين حرارة الجو أكثر مما هو ساخن ملتهب، ومن ثم تتقصد تأزيم الأمور مع كثير من الفئات الاجتماعية، في محاولة لإجهاض أية إصلاحات حقيقية، من دون أن يستطيع أحد في السلطة أو المعارضة فضح هذه القوى علانية لإيقاف شرها.
يلفت النظر ثانيا، أن التسخين والتأزيم المتعمد، يتسع يوميا ليطول السياسيين والمثقفين، وها هي الأزمات والأزمات المضادة، التهديدات والتهديدات المضادة، تشتعل ليس فقط بسبب حبس الصحافيين، ولكن أيضا بين المحامين والقضاة وأساتذة الجامعات والنقابات المهنية وكثير من الأحزاب السياسية الشرعية أو المحجوبة عن الشرعية، من دون أن يتقدم عاقل رشيد، ليوقف تعمد زيادة هذا الاحتباس الديمقراطي، المصاحب للاحتباس الحراري الخانق، ما ينبئ بتطورات أكثر دراماتيكية خلال هذا الصيف الساخن اللاهب!
ويلفت النظر ثالثا أن كتائب أعداء الديمقراطية، دعاة التأزيم والتسخين، يخدمون بقصد أو عفوية، الدعوة الأميركية الهاجمة لفرض أجندة إصلاحها الديمقراطي علينا، مثلما أنهم يجهضون ذلك الحراك الديمقراطي الذي نشط في مصر حديثا، مطالبا بإطلاق الحريات واستعادة حقوق المواطنين في تداول السلطة بالانتخابات النظيفة المباشرة، وخصوصا بعدما دعا الرئيس مبارك إلى تعديل المادة "76" من الدستور، لانتخاب رئيس الجمهورية انتخابا شعبيا مباشرا من بين عدة متنافسين، فاتحا الطريق أمام تحول تاريخي مهم إن أجدنا تطويره.
في هذا المناخ الملتهب بالاحتباس الحراري والديمقراطي معا، نقول إن تعمد إرهاب الصحافيين وقمع حرية الصحافة، في ظل هامشها الحالي، المحدود والمحكوم، بجرجرة الصحافيين وكتاب الرأي إلى قاعات المحاكم "هناك أكثر من مئتي تحقيق أو قضية أمام النيابة أو أمام المحاكم المصرية الآن"، إنما يترجم ببساطة شديدة الهجوم المضاد لكتائب أعداء الديمقراطية في الداخل، من أجل إطفاء كل الأنوار وإغلاق كل المنافذ وسد كل الطرق نحو التطور.
وبقدر ما أنهم يبررون بجريمتهم هذه، للقوى الدولية الضاغطة، لكي تتدخل بفرض إصلاحها المستورد، بقدر ما أنهم يتناقضون حتى مع القيادة العليا التي بادرت بفتح باب تعديل الدستور، وأعلنت خطتها - بالتالي - لتعديل قوانين الأحزاب والانتخابات والممارسة السياسية، لفتح مسارات إصلاحية جديدة.
وليس أدل على ما نقول، من أن أربعة عشر شهرا كاملة، مضت الآن على قرار رئيس الجمهورية، الذي أبلغه شخصيا لنقيب الصحافيين في فبراير/ شباط من العام الماضي، بإلغاء عقوبة الحبس للصحافيين وغيرهم من المواطنين في قضايا الرأي والنشر، ولايزال تعديل النصوص القانونية الكثيرة المنتشرة في قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية والصحافة والمطبوعات والطوارئ وغيرها، لايزال يتلكأ في دهاليز البيروقراطية المصرية الشهيرة، في حين يعرف الجميع، كيف يمكن أن "تسلق القوانين" في أسبوع أو شهر، حين تتصدر المصالح، أو تفرض مراكز القوى الجديدة وجماعات الضغط المعروفة ما تحب وتريد!
والأهم والأخطر الآن أن فك هذا الاحتباس الديمقراطي، الذي يعتبر حبس الصحافيين أحد مظاهره السلبية، يجب أن يتصدر الجهود المبذولة للإصلاح الديمقراطي الحقيقي، بل إن إطلاق حرية الصحافة بالمعايير المعروفة، وتحرير الإعلام من القبضة الحكومية البيروقراطية، وضمان حرية الرأي والتعبير لكل المواطنين، يشكل الخطوة الأولى والحقيقية لأي مشروع إصلاحي ديمقراطي، نابع من إرادتنا الوطنية الحرة، في مواجهة المشروع الإصلاحي الخارجي، والأميركي خصوصا، الذي يتضمن برنامجا هائلا تحت عنوان "إعادة هيكلة الصحافة والإعلام في الدول العربية"، رصدت وراءه مئات الملايين، وجندت له مئات الخبرات من الداخل ومن الخارج معا، بهدف تغيير العقول وتزييف الوعي، إعدادا لتغيير الحكومات وإطاحة الحكام وتطويع المحكومين!
وعلى رغم وضوح الخطر وشيك الوقوع والهجوم الأجنبي الشرس، الذي يريد احتلال عقولنا قبل احتلال أرضنا، فإن كتائب أعداء الديمقراطية في الداخل، متحالفين مع كتائب المتأمركين العرب، علنا أو سرا، يتعمدون إشعال أزمة كل يوم، من نوع حبس الصحافيين وتهديد المثقفين، تعبيرا عن لذة سادية مرضية، لا يمارسها إلا مرضى العقل، في وقت لا يحتمل المغامرة بمصير الأوطان والشعوب، مثلما لا يقبل التطوع بفتح الأبواب أمام المستعمرين الجدد!
والمؤسف أن عقوبة حبس الصحافيين في قضايا الرأي والنشر، التي يتلذذ بها بعض المسئولين المرضى نفسيا في مجالسهم العامة والخاصة، قد جاءتنا من موروثات عصور الاستعمار الغربي والحكومات العميلة له، لكبت الحريات الوطنية بصفة عامة، ومازالت نصوصها شائعة في قوانين عتيقة ورثناها عن عصور الاستعمار التركي والفرنسي والبريطاني، وقد استخدمتها حكومات عهود الاستقلال الوطني من بعد، لإحكام قبضتها على الناس!
وها هم ورثة عقلية المستعمر القديم، ودعاة المستعمر الجديد، وخصوصا الأميركي الجامح، يجهدون أنفسهم لإبقاء "العقوبة الاستعمارية السالبة للحرية" على حالها، على رغم كل المتغيرات المحلية والدولية، وإجهاضا لكل محاولات الإصلاح الديمقراطي الوطني والقومي الحقيقي.
وبقدر أهمية هذا الحراك السياسي الاجتماعي الفكري النشط في أكثر من ساحة عربية، وخصوصا في مصر هذه الأيام، ما يثير الأمل في التحديث والتطور، بقدر ما أن أوضاع الصحافة والإعلام العربي تعاني من تراجع ملحوظ ومحزن، ليس حبس الصحافيين إلا أحد مظاهره المرضية، إذ رصدت التقارير السنوية لثلاث منظمات دولية معنية بحرية الصحافة في العالم، فضلا عن تقارير اتحاد الصحافيين العرب، توسعا مفلتا من جانب النظم العربية "المتهمة أمام العالم بالفساد والاستبداد" بانتهاك حرية الصحافة وزيادة معدلات محاكمة الصحافيين وتطبيق العقوبات السالبة للحرية، وخصوصا عقوبة الحبس، والاعتداء والإيذاء البدني والنفسي على الصحافيين والمفكرين وأصحاب الرأي!
لذلك لم يكن غريبا أن تصنف كل الدول العربية ضمن الدول الأسوأ، في مجال ممارسة حرية الصحافة والرأي والتعبير، وأن تحتفظ هي مع بعض دول جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية، بعقوبات حبس الصحافيين واعتقالهم وقتلهم وانتهاك حرياتهم باسم القانون، أو خارج القانون!
مصر المطالبة اليوم أكثر من غيرها، باقتحام الإصلاح الديمقراطي الواسع، مطالبة أكثر من غيرها بالبدء فورا بإطلاق حرية الصحافة والرأي، تجاوزا للهامش المحدود الحالي، وفكا لحال الاحتباس الديمقراطي، المصاحبة للاحتباس الحراري، قبل أن تهب الرياح الساخنة للصيف اللاهب القادم بسرعة، تدفعه عواصف عاتية تهب عبر البحار والمحيطات!
خير الكلام:
الحكمة فلسفة العاقل، المعاندة فلسفة الجاهل!
* مدير تحرير صحيفة "الأهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 964 - الثلثاء 26 أبريل 2005م الموافق 17 ربيع الاول 1426هـ