في أرشيف الفاتيكان صورة يظهر فيها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني وهو يقبل المصحف الشريف وإلى جانبه المفتي الأعلى في سورية. ويعود تاريخ هذه الصورة إلى العام 2000 حين قام يوحنا بولس الثاني بزيارة لسورية التي تعيش فيها طائفة مسيحية، وكان أول بابا يزور جامعا للمسلمين حين دخل الجامع الأموي وسط العاصمة السورية. وقال البعض وقتذاك إن البابا قصد زيارة الجامع الأموي لأنه كان كنيسة سابقا. غير أن مؤيدي الحوار الإسلامي/المسيحي أشاروا إلى رأي أقل تشكيكا وقالوا إنها خطوة من قبل الفاتيكان لرأب الصدع الذي يسود العلاقات بين ممثلي الديانتين.
وتمت زيارة البابا لدمشق قبل وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 على الولايات المتحدة، وهو الحدث الذي زاد الصدع وسقط الحوار ضحية الأحكام المسبقة، ولاسيما نتيجة إجحاف الإعلام الغربي الذي أخذ منذئذ يربط بين الإسلام والإرهاب. ولم يحصل البابا يوحنا بولس الثاني ومفتي سورية الأعلى الذي توفي لاحقا على فرصة وضع قاعدة لحوار إسلامي/مسيحي بسبب نتائج هجمات سبتمبر. وأوحت السياسة الهشة لإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش أن الولايات المتحدة تقود حربا دينية ضد دول إسلامية، وأنه استسلم لصقور واشنطن الذين أقنعوه بأن يلعب دور المبشر.
ومنذ تاريخ 11 سبتمبر يسعى بوش لتغيير أنظمة في دول إسلامية استهلها بأفغانستان، وحصل حينها على تأييد واسع من قبل المجتمع الدولي، ولكنه لم يحصل على تأييد مماثل حين قام بحملته على العراق على رغم أنه حقق هدفه بالإطاحة بنظام صدام حسين، ومن بين الذين عارضوا غزو العراق كان البابا يوحنا بولس الثاني الذي كان ينحدر من جذور بولندية. والسؤال المطروح الآن: هل سيعيد البابا الجديد بنديكت السادس عشر ما فعله سلفه بالسعي للحوار مع العالم الإسلامي؟
إن الإجابة في علم الغيب، ولكن عملية بحث سريعة لتصريحات أدلى بها البابا الجديد حين كان يخطب باسم الكاردينال جوزف راتسينغر تكشف أنه ينظر إلى الإسلام عن بعد. وتعرض راتسينغر بعد انتخابه لمنصب البابا إلى انتقاد من وسائل الإعلام التركية التي ذكرت في تصريحات أدلى بها لصحيفة "لوفيجارو" الفرنسية أعرب فيها عن مناهضته لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، داعيا إياها إلى البحث عن مركز قيادي في إطار شراكة استراتيجية مع الدول العربية في إشارة منه إلى أنها دولة مسلمة. وهي انتكاسة جديدة للأتراك الذين يتصدون بحزم لأولئك الذين يرون الاتحاد الأوروبي حكرا على الدول المسيحية.
في ألمانيا نفسها، ظهر معارضون لانتخاب راتسينغر خليفة للبابا الراحل، أبرزهم تنظيمات نسائية أعربت عن مخاوفها من أن يواصل راتسينغر العمل على نهج سلفه، وهو النهج الذي أبقى النساء الكاثوليكيات حتى اليوم أقل ملكا للحقوق من الرجل.
في المقابل، رحب العالم الإسلامي بالبابا الجديد، وأعرب ممثلوه عن أملهم بأن يسهم بدور فعال في قيام حوار بناء بين الإسلام والمسيحية، إلا أن نقطة سوداء في ماضي راتسينغر استأثرت باهتمام دولي وخصوصا في بريطانيا. الصحف الإسرائيلية أشارت لماضي راتسينغر حين انضم في شبابه المبكر إلى تنظيم "شباب هتلر"، ولا تتوافر غير معلومات قليلة عما قام به من مهمات عسكرية. وكغيره من الشبيبة الألمان في مطلع الأربعينات حين كان هتلر يقوم بغزو واسع يرمي لسيطرة ألمانيا النازية على أوروبا كاملة، انجرف راتسينغر مع التيار القومي داخل دولة الرايخ الثالث.
من تنبه لتعليقات الصحف الإسرائيلية قرأ بين السطور أن "إسرائيل" تنتظر من البابا الجديد أن يعوض عن الأخطاء التي ارتكبها في مطلع شبابه بالانتساب إلى تنظيم "شباب هتلر". وبحكم أنه ألماني، تتوقع منه أن يعزز علاقات الفاتيكان معها ويساندها في الجهود التي تقوم بها لمكافحة عداء السامية في أوروبا. وليس سرا أن السياسيين والإعلاميين وغيرهم في أوروبا الذين ينتقدون ممارسات "إسرائيل" التعسفية ضد الفلسطينيين، يجري اتهامهم أيضا بمعاداة السامية.
وقد أثارت تغطية وسائل الإعلام البريطانية بصورة خاصة غضب الألمان على رغم أن وسائل الإعلام الألمانية نفسها نشرت صورة لراتسينغر وهو في زي شباب هتلر، وقالت إن راتسينغر البالغ 78 عاما، لم يخف ماضيه وتحدث عنه بما يكفي بالنسبة إلى البعض، وإن كان البعض الآخر يرى أنه لم يذكر كل شيء. ونشرت صحيفة شعبية في لندن تحت عنوان "من شباب هتلر إلى بابا راتزي"، لتنشب الحرب الإعلامية التي تشنها وسائل الإعلام البريطانية كلما حصلت على فرصة لتذكير الألمان بماضيهم النازي، ولكن الألمان الذين اكتسبوا ثقة كبيرة بأنفسهم بعد 60 سنة على نهاية الحرب العالمية الثانية ويسعون للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، لم يلزموا الصمت، فنشرت صحيفة "بيلد" الشعبية الواسعة الانتشار مجموعة من صور مواطنين انضموا في مطلع حياتهم لتنظيم "شباب هتلر" قالوا إنهم لا يشعرون أنهم نازيون أو يمكن وصفهم بالمجرمين. وقال مؤرخ ألماني إن شباب هتلر كانوا ضحايا هتلر لأنهم كانوا صغار السن.
وكان هذا التنظيم عبارة عن ميليشيا للشبيبة، إذ كان الجنود الألمان يوكلون إليهم مهمات قتالية أيضا، إضافة إلى نقل الرسائل في مناطق القتال. وحين حوصرت ألمانيا أسندت إليهم مهمات وقف زحف دبابات الحلفاء وكانوا يرمون القنابل في طريقها، كما وقفوا في خنادق القتال جنبا إلى جنب مع الجنود والمتطوعين. وفي العام 1943 تحديدا التقطت صورة لجوزف راتسينغر الذي كان والده ضابطا في الشرطة، وهي الصورة التي استغلها الإعلام البريطاني لشن حملته المناهضة للبابا الجديد واتهامه بالتعاون مع الحكم النازي.
ودافعت الصحف الألمانية عن ممثل الكنيسة الكاثوليكية وقالت إنه كشف بنفسه عن هذه الحقبة من حياته في عدد من الكتب التي وضعها. ففي كتاب يحمل عنوان "من حياتي"، ذكر أنه انجذب لتنظيم "شباب هتلر" في العام 1941 بعد مشاركته في مؤتمر ووقع على العضوية فيه، ولكنه لم يقم بأي نشاط يذكر حتى حلول العام 1943 حين عهد إليه بمهمة، وكان يعمل مساعدا في سلاح الجو الألماني. وفي الشتاء الأخير الذي سبق نهاية الحرب العالمية الثانية عهد إليه بمهمات عسكرية جديدة، ولكنه كان محظوظا، إذ لم يتم إرساله إلى الجبهات الأمامية وسرعان ما وقع في الأسر وأمضى عدة أشهر في معسكر لأسرى الحرب تحت إشراف القوات الأميركية. وحين عين في منصب كاردينال حاول صحافي أميركي يدعى جون ألين الحصول على معلومات عن ماضي راتسينغر في العهد النازي ولم يحصل على ما يشير إلى أنه كان مشبعا بالايديولوجية النازية.
وحصل مركز سيمون فيزينتال في القدس على نتيجة مماثلة، غير أن صحيفة "إندبندنت" البريطانية المعتبرة واصلت الحملة المناهضة للبابا الجديد، فذكرت أنه شارك بتاريخ الثالث من مايو/ أيار 1945 - قبل خمسة أيام على إعلان ألمانيا استسلامها - بملاحقة آلاف اليهود الذين غادروا معسكرات الاعتقال في بوخنفالد وفلوسينبورغ وطاردهم الحرس الهتلري في الشوارع. وفي اليوم التالي عثر على 66 منهم مقتولين.
وقالت الصحيفة إن راتسينغر لم يأت على ذكر هذه الواقعة في أي من كتبه وليس في سيرة حياته الصادرة في كتاب في العام .1997 ولم تشر الصحيفة البريطانية إلى اعتقادها بأن راتسينغر كان شاهدا على هذه الواقعة، إلا أن المؤرخين الألمان يعتقدون أنه كان على الأرجح في هذه الفترة بقبضة القوات الأميركية. غير أن "إندبندنت" تركت القراء يقررون بأنفسهم ما إذا كان راتسينغر منجذبا للايديولوجية النازية وخدم هتلر.
ويتحدث الألمان عن محاولة تقوم بها وسائل الإعلام البريطانية للمس بالبابا الجديد لأنه ينحدر من ألمانيا، وخصوصا أن بريطانيا لم تنس الحرب بعد. أما وسائل الإعلام فإنها تعتبر مباراة بكرة القدم بين ألمانيا وإنجلترا مناسبة للتذكير بالحرب وتنشر صورا للاعبي المنتخب الإنجليزي وهم يضعون خوذات جند في الجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية وتدعوهم إلى ضرب الدبابات الألمانية. وقال فالتر فريد "78 عاما" الذي كان مع راتسينغر في تنظيم شباب هتلر العام 1943: إن وسائل الإعلام البريطانية تشن حملة تحقير مقصودة ضد البابا بنديكت السادس عشر. قال فريد إن ضابطا في الجيش الهتلري جاء يوما لتفقد التنظيم بالقرب من مدينة ميونيخ وقام بسؤال الشبيبة عما يريدون أن يصبحوا في المستقبل وحين جاء دور راتسينغر قال إنه يرغب في أن يدخل الكنيسة، فقوبلت إجابته بالضحك، في ذلك الوقت كان مثل هذا الرأي يحتاج إلى شجاعة
العدد 963 - الإثنين 25 أبريل 2005م الموافق 16 ربيع الاول 1426هـ