يستيقظون على وتر الجوع، وينامون على أنغام الفقر المدقع والدموع. .. هم لا يأملون بالكثير، ولا يطمحون بالمعجزات ولا بالمفاجآت لأنهم وبكل بساطة، لا يسعون إلا إلى ما يسد رمق جوعهم ويصونون ماء وجوههم. قد يظن البعض بأننا نبالغ في وصف هذه الحال، ولكن ماذا نصف غير ذلك عندما يتجسد الواقع المرير جليا أمام الأعين. "الوسط" دخلت عالم المواطنين الذين يتسلمون مساعدات من "الشئون" كما يعبرون عنها، استمعت إلى شكاواهم، حاولوا إخفاء جروحهم في البداية، ولكن سرعان مازالت الحجب لينقلونا معهم في ركب معاناة "الحياة المرة". عندما تدخل عليهم بيوتهم، أو عندما تجلس معهم في أي مكان يتبادر إلى ذهنك شعور يدفعك للإحساس بأنهم يعيشون كما يحيى بقية الناس، ينامون قريري الأعين و"تحسبهم أغنياء من التعفف". ولكن هذه الأجساد المنهكة تخفي وراءها آلاما وهموما ما لم تره عين ولا خطر على قلب بشر!
مئة فلس للفرد الواحد يوميا!
في البداية لم نصدق ما قيل، ولكن هذا هو الواقع المعاش... مئة فلس للفرد الواحد من الأسرة يوميا، ليصبح المجموع ثلاثة دنانير في الشهر، ويظل المبلغ يتضاعف ليصل إلى ستة دنانير، إذ لا يتسلم هؤلاء المواطنون هذه "الصدقة" إلا مرة كل شهرين! انتابتنا دهشة وحيرة ما بعدها حيرة، فماذا يفعل المرء بمئة فلس في اليوم، هل يقسمها للفطور صباحا والغذاء والعشاء، وهل تكفيه لمصروفات المنزل والحاجيات الخاصة، وماذا وماذا؟ وحتى لو كان من يمنح هذه "الصدقة" لديه أولاد يعملون افتراضا، ألا يستحق المرء أن يحيا بكرامة على أرض وطنه وعلى التراب الذي رباه، وعن أي عمل نتحدث، عن عمل يتقاضى العامل فيه مبلغا لا يتجاوز 150 دينارا؟ ألا يستحق المرء أن يبقي ماء وجهه مصانا بعيدا عن معونات الجمعيات والصناديق الخيرية التي تطلب - البعض منها - شروطا "تعجيزية لا تصون ماء الوجه" كما يعبر عن ذلك مستحقو المساعدات، فما معنى أن يمنح الفقير قسيمة شراء لمنتجات محددة ومن برادة محددة! نعود إلى أصحابنا الذين فضلوا عدم ذكر أسمائهم خوفا من "أن تقطع عنهم المعونات الاجتماعية"... أردنا أن نتعرف على حياتهم، كيف يدبرون أمور حياتهم، بل كيف يعيشون، ومن أين يتعيشون؟... ولم تكن الإجابات بحاجة إلى تفكير أو عصف ذهني، فالمصروفات محفوظة عن ظهر قلب!
اليوم الأول بعد انتظار طويل
يروي لنا الحاج "م. أ. م" وهو رب أسرة لأكثر من عشرة أفراد كيفية التعايش مع المبلغ الزهيد الذي يتسلمه، وقبل أن يدخل في التفاصيل يعود بنا إلى الماضي قليلا ليشرح لنا كيف كان الناس يقبضون المعونات الاجتماعية فيقول: "كنا نتسلم المعونة من عدة أماكن في بداية الأمر كنادي البديع ونادي السنابس. ومنذ الساعات الأولى وما ان تطل الشمس على سماء الدنيا، يتدفق الناس كالجراد على هذه المراكز، ويتسابقون على تسليم "جوازات الصدقات" وهي دفاتر أشبه بالجواز، لأن من يسلمها قبل الآخرين يتسلم نصيبه قبل الآخرين. ويتدافع الناس على مراكز "العطايا"، وكان المنظر غير حضاري، حتى أن بعض الناس يجدون في قدومهم إلى هذه المراكز إحراجا كبيرا وكأنهم يقدمون إلى الصدقات أو ما شاكل ذلك". يعود الحاج إلى موضوع الصرف: - بعد شهرين من الانتظار الذي دائما ما يكون طويلا، نضع ما حصلنا عليه في أيدينا ودائما ما نتحير ونتساءل: ماذا سنفعل بهذا المبلغ؟ هل سنصرفه على الأكل والشرب؟ هل سنشتري به ملابس إلى الأطفال؟ هل سندفع به فاتورة الكهرباء الذي اعتدنا عليها حمراء دائما؟ أو هل سندفع به الدين الذي يتجاوز أحيانا المبلغ نفسه ونبقى بلا "حمص"؟... عموما، ما إن ينقضي اليوم الأول ومن دون أن نشعر نجد أن المبلغ تناصف أو قارب على الانتهاء. ويضيف "بالنسبة إلي، أنا أتسلم 96 دينارا لي ولأبنائي، وفي اليوم الأول تكون مصروفاتي كالآتي: - 20 دينارا أشتري بها دجاجا وسمكا عل وعسى أن يكفينا حتى منتصف الشهر "عدد 2 كوارتين دجاج". - 5 دنانير فواكه إن أمكن وفي بعض الأحيان لا نتمكن من شراء الفواكه. - أدفع ما بين 10 إلى 15 دينارا إلى البرادة وهي جزء من الدين الذي دائما ما يتراكم شهرا بعد شهر إلى أن يمتنع صاحب المحل عن بيعي أي شيء. وهكذا، لا يبقى من المبلغ إلا نصفه أو أقل من ذلك، وأبقى في ليلة اليوم الأول أفكر مليا بما سيحدث بعد انتهاء المبلغ وهو أمر لا مفر منه شئنا أم أبينا".
انتهى الأسبوع الأول وبقيت صفر اليدين!
عندما طلبنا من الحاج "أ. م. أ" إخبارنا عن صرفه في اليوم الثاني، قال: "نحن لا نتكلم عن الصرف في اليوم الثاني أو الثالث، بل نتكلم عن طريقة تبقينا بعيدا عن الحاجة لمدة أسبوع على الأقل، ففي بعض الشهور، ينتهي اليوم الأول ونحن لا نملك أي مبلغ، وتغلبنا الحيرة حين يطلب منا أحد أطفالنا مئة فلس للمدرسة، ويتصبب العرق حين تطلب منا إحدى بناتنا مبلغا لحاجة خاصة... ماذا نفعل والهواء نستنشقه بالنقود، ونسير على الأرض بالنقود. أضطر إلى ترك المنزل والتجوال حتى لا يطلب مني أبنائي نقودا وأقع في موضع الإحراج، وقد أجد بعض علب الألمنيوم وأجمعها وأبيعها وآتي لأطفالي بشيء يأكلونه". يتمالك الحاج نفسه وتأبى عزة نفسه إلا أن تبقيه يواصل الحديث برباطة جأش "يا ولدي، أعرف أناسا يقبضون في الشهر أكثر من 200 دينار ولا يستطيعون تدبير أمورهم، فماذا نقول نحن الذين يتسلم أبناؤنا مئة فلس في اليوم؟ نحن لا نعرف ماذا سنصنع بهذه المئة، هل نشتري لهم بها عصيرا و"مينو"... صدقني، لولا إيماني بالله لقلت إن الموت أهون علينا من هذه الحياة، فما فائدة حياة يظل فيها غير القادر على العمل ذليلا بين الناس. صحيح أن الله فضل أناسا على غيرهم وجعل بعضهم لبعض سخريا، ولكن...". في هذه المرة، يجبر حديث الحاج دموعه على النزول على وجنتيه، وكم كان المنظر حزينا لما أدرك الحاج أنه بدأ يذرف دموعا هي عنده أثمن من كل شيء، وسرعان ما عاد لحديث أكثر إيلاما من سابقه، كم من عائلة اضطرت بناتها إلى ممارسة الفاحشة، فما الذي تفعله فتاة في عمر الزهور وهي لا تملك ما تشتري به حاجياتها الخاصة؟ إذا كانت الحكومة غافلة عن هذه الفئة، أين رجالات الخير، أين الباحثون عن إنفاق الصدقات، أين الساعون إلى المساعدات، أو أننا نعيش في زمن دخلت فيه الواسطة والمحسوبية حتى في المساعدات، نحن لسنا بحاجة إلى بناء مأتم أو مسجد من جديد وإنفاق الملايين، هل نتوقع أن يتقبل الله هذا العمل وهناك من هو بأمس الحاجة إلى مبلغ يسد به رمقه ويدفع به البلاء عن أهله. هل نرضى بأن تمتهن بناتنا الفاحشة لا سمح الله؟ هل نرضى بأن يضطر أبناؤنا إلى السرقة والانخراط في درب الانحطاط؟ نحن دائما ما نلوم الآباء والأمهات على التربية، ونحلل ونفسر الحوادث بما نرتئيه، ولكن هل كلفنا نفسنا وتجشمنا بعض العناء لنعرف فيما إذا كان هذا الشخص يملك قوت يومه أو لا. من جهته، يطرق الحاج علي سلمان موضوع آخر بقوله: "وماذا عن مساعدات السيف، لماذا تأخرت الدولة علينا كل هذه المدة، ولماذا أعطتنا شهادات منذ أكثر من عام ونصف، هل لنعلقها على الحائط، أو أن ذلك كان زخما إعلاميا سرعان ما عبر وغاب كما غابت الكثير من الوعود... لقد وعدنا المسئولون بأن مساعدات السيف لذوي الدخل المحدود ستصرف بعد أيام من تسلم الشهادات، ولكن متى تأتي هذه الأيام". معاناة ما بعدها معاناة، بدءا بالمئة فلس في اليوم الواحد، ووصولا إلى بيع ماء الوجه على أبواب بعض الصناديق والجمعيات الخيرية... ويظل السؤال؛ متى سنستفيق وندرك بأن هناك فئة منسية من الناس، بعضهم يتكفف الأيدي، وآخرون يمسكهم التعفف عن بيع ماء الوجه فيمنعهم ذلك من طلب العطايا ويتضورن ويذوقون مرارة الحياة التي لا تر
العدد 962 - الأحد 24 أبريل 2005م الموافق 15 ربيع الاول 1426هـ