العدد 960 - الجمعة 22 أبريل 2005م الموافق 13 ربيع الاول 1426هـ

التغيير القادم في النظام العالمي

البرلمان الإيطالي يتبنى فكرة لاروش لبناء نظام جديد

حسين العسكري comments [at] alwasatnews.com

في السادس من أبريل/ نيسان وبينما كان قادة العالم يهبطون إلى العاصمة الإيطالية روما للمشاركة في تشييع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في اليوم التالي، كان أعضاء مجلس النواب الإيطالي في المدينة نفسها منهمكون في المناقشات النهائية لفكرة عالم الاقتصاد والسياسي الأميركي ليندون لاروش عن إفلاس النظام المالي والنقدي العالمي الحالي وضرورة تأسيس نظام عالمي عادل جديد.

إن أمما كثيرة في العالم ومنها دول عربية، تقوم تحت إغراءات بمساعدات ومنح مرة والتهديد مرة أخرى بتطبيق سياسات اقتصادية مطروحة من قبل المؤسسات المالية والنقدية العالمية "مثل: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي" التي تسيرها مصالح حفنة من الأسر المصرفية في الولايات المتحدة وبريطانيا بدعم من إدارة بوش الحالية وحليفتها بريطانيا ودول أخرى. إن هذه السياسات الاقتصادية الهدامة المفروضة - التي تخضع لها دول عربية وغيرها من الدول النامية من تقشف قاتل ورفع للدعم الحكومي عن السلع والخدمات الاساسية وما يسمى "تحرير الاقتصاد" وفتح الأسواق المالية المحلية "للاستثمار الأجنبي" وغيرها من الشعارات البراقة - هي جزء من المحاولة الأخيرة لنظام مالي عالمي مفلس أن ينهب تلك الشعوب. إن ما لا تدركه حكومات هذه الدول هو أن النظام المالي العالمي أو نظام الدولار العائم - الذي بدأ منذ أن فرض أمثال هنري كيسنجر وجورج شولتز على الرئيس الأميركي نيكسون التخلي في العام 1971 عن نظام بريتون وودز الذي تأسس العام ،1944 ورفع الدولار عن قاعدته الذهبية وتعويمه - يلفظ أنفاسه الأخيرة.

فبدلا من الارتجاف خوفا أمام المكنة العسكرية للتحالف الأنجلو أميركي، على هذه الدول أن تدرك أن اقتصاد الولايات المتحدة وبريطانيا مفلسان، وأن القاعدة الصناعية لهاتين القوتين يتم نهبها من قبل المصالح المالية نفسها في وول ستريت ولندن التي تنهب دول العالم. هذه المصالح المالية لا تكترث بالصالح العام للشعب الأميركي أو البريطاني. على هذا الأساس، فإن النظام الذي عليه أن يخشى على نفسه من التغيير هو الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية.

على هذا بدأت تحركات معارضة لاستمرار هذه السياسات الاقتصادية الهدامة في الولايات المتحدة وأوروبا من قوى وطنية في داخلها تريد إعادة الولايات المتحدة إلى الجمهورية الدستورية التي كانت قبل وفاة الرئيس فرانكلن روزفلت العام 1945 ووقف الزحف نحو تحويل الولايات المتحدة إلى امبراطورية عسكرية فاشية. إن نزع مخالب وأسنان مؤسسات الطبقة الأوليجاركية المالية الأنجلوأميركية التي تقف وراء إدارة بوش وسياساتها العدوانية في العالم، هو الذي سيوقف المسير نحو خلق حروب جديدة إقليمية وأهلية وتغيير الأنظمة وخصوصا في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا الوسطى. إن على الحكومات العربية والقوى السياسية فيها أن تدرك أن المفلس الموشك على الانهيار هو إدارة بوش والمؤسسات المالية والمصرفية العالمية التي تفزع هذه الحكومات. إن تغيير النظام قد يحصل في الولايات المتحدة وأوروبا قبل أن يحصل في الدول النامية. لذلك على هذه الشعوب بدلا من فتح اقتصاداتها للنهب العام أن تدعم القوى السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا التي تحارب من أجل تأسيس نظام اقتصادي عالمي عادل جديد. هذا هو الذي سيؤدي إلى التغيير السياسي وليس العكس.

إن أحسن ما يمكن لحكومة عربية أو برلمان عربي أو جمعية أو حركة سياسية أو شخصية عربية القيام به للدفاع عن مصالح شعبها هو تقديم الدعم والتأييد لمثل هذه الجهود في الولايات المتحدة وأوروبا، وليس المشاركة في زعزعة استقرار بلادها ونهب اقتصاد شعوبها بواسطة "الإصلاحات" التي أصبحت أخبث كلمة في القاموس السياسي العالمي اليوم.

التحرك في البرلمان الإيطالي

في حادث تاريخي قام مجلس النواب في البرلمان الإيطالي بالمصادقة على اقتراح يدعو الحكومة الإيطالية إلى الدعوة إلى عقد "مؤتمر دولي على مستوى قادة الدول والحكومات لصوغ نظام مالي ونقدي عالمي عادل جديد". هذا الاقتراح، الذي تمت المصادقة عليه بغالبية ساحقة، صاغه ممثل حركة لاروش في إيطاليا باولو رايموندي بالتعاون مع النائب البرلماني ماريو ليتيري الذي قدم النص الأصلي مع 50 من زملائه في البرلمان من جميع الأحزاب الإيطالية تقريبا. ويمثل الاقتراح تعبيرا صادقا ووفيا للتحليلات والاقتراحات التي قدمها عالم الاقتصاد الأميركي والمترشح السابق للرئاسة ليندون لاروش.

جاء التصويت على اقتراح ليتيري بعد معركة شرسة قامت خلالها حكومة رئيس الوزراء سيلفيو بيرلسكوني بمحاولة نزع الأجزاء المهمة من هذا الاقتراح، لكن محاولاتها رفضت من قبل أعضاء البرلمان. ففي بداية الشروع بمناقشة الاقتراح قام ممثل الحكومة نائب وزير الشئون البرلمانية كوسيمو فينتوتشي بالتدخل عن طريق اقتراح إزالة خمسة أسطر من نص الاقتراح الأصلي، الأمر الذي كان سيزيل أهم جزء من الاقتراح وهو مطالبة الحكومة بالتحرك من أجل عقد مؤتمر دولي لإصلاح النظام المالي والنقدي العالمي، ورفض اقتراح فينتوتشي من قبل طيف واسع من المشرعين ليس فقط من أعضاء المعارضة أيضا بل من قبل نواب من أحزاب الائتلاف الحكومي. وقام النائبان ألفونسو جاني من الحزب المعارض "PRC" ولويجي داجرو من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المشترك في الحكومة، بقيادة القوى الموالية للاروش والمناهضة للعولمة من أجل هزيمة محاولات الحكومة.

ومما يثير الاهتمام هو أن النائب ليتيري وغيره قاموا بمداخلات في النقاش لكي يشيروا إلى أن البابا الراحل يوحنا بولس الثاني "الذي دفن بعد يوم من التصويت على هذا الاقتراح" هو مرجعهم الأخلاقي وقائدهم في قضايا العدالة الاقتصادية والاجتماعية.

في بداية المناقشات عند تقديم الاقتراح في 14 مارس/ آذار، قرأ النائب ليتيري العضو في حزب مارجاريتا "وسط اليسار" نص الاقتراح الذي يحتوي على تقرير مفصل بشأن النمو غير الطبيعي للاقتصاد المالي مقارنة بالاقتصاد الحقيقي.

وشدد ليتيري، مشيرا إلى إحصاءات بنك التسوية الدولي، على الخطر القادم للانهيار البنيوي للنظام العالمي نتيجة فقاعة العقود الآجلة الهائلة التي تشترك فيها المصارف العالمية وصناديق التحوط والاستثمار. وذكر ليتيري الحاضرين في مجلس النواب كيف "قام عالم الاقتصاد والسياسي الأميركي ليندون لاروش لفترة من الزمن بتحليل أسباب هذه الأزمة النظامية وقدم حلولا لإعادة تنظيم مجمل النظام المالي والنقدي العالمي عن طريق مؤتمر بريتون وودز جديد". وقال ليتيري إنه بناء على ذلك سيكون من الضروري التحرك لعقد مؤتمر للدول الصناعية الثماني بمشاركة دول أخرى لمناقشة القواعد الأساسية لنظام مالي ونقدي عالمي قادر على تفادي الانهيارات المالية وقادر على إعادة تنشيط الاقتصاد الحقيقي.

وأضاف ليتيري أنه "عندما عقد مؤتمر بريتون وودز الأول في 1944 كنا على وشك الخروج من حرب عالمية. أما اليوم، فإن من واجبنا أن نشن حربا شعواء ضد الفقر في العالم". وشدد ليتيري على أن هذه القضية ليست قضية ايديولوجية أو حزبية، بل قضية توحد الغالبية الحاكمة والمعارضة بعيدا عن الحدود الحزبية. واختتم ليتيري مداخلته قائلا إنه "ليس لدينا مزيد من الوقت لتفادي تهديد نظامي من شأنه أن يشعل أزمة أسوأ من أزمة الأعوام 1929 - 1933".

أما النائبة باولا مارياني من حزب الديمقراطيين اليساريين المعارض فقد ركزت في مداخلتها على مسئولية صندوق النقد الدولي في خلق هذه الأزمة والأزمات المحلية في مناطق مختلفة من العالم مثل إفلاس الأرجنتين. وقد أشارت مارياني إلى تصريحات سابقة لمستشار الاقتصادي الأول في البنك الدولي سابقا جوستيجليتز، قائلة في سياق تأييدها للاقتراح: "لقد حان الوقت لبناء بنية مالية جديدة تحمي الاقتصاد الحقيقي، ما يعني أنه قد حان الوقت لعقد مؤتمر دولي جديد مشابه لمؤتمر في بريتون وودز العام 1944".

وفي نهاية الجولة الأولى من المناقشات أجرى النائب ساندرو ديلماسترو ديللي فيدوفي من حزب التحالف القومي الحاكم مداخلة مهمة، إذ أكد ديللي فيدوفي أن هذه القضية "هي أهم قضية على الاطلاق" تتم مناقشتها اليوم. وقد هاجم بشدة الصمت المدوي الجبان للإعلام عموما بشأن هذه القضية. وذكر النائب أعضاء البرلمان أن الاقتصاد المالي هو في يد "بضعة مئات من الأشخاص الذين لم ينتخبهم أحد والذين حولوا المضاربات المالية إلى نظام قائم بذاته".

وأيد النائب ديللي فيدوفي اقتراح عقد بريتون وودز جديد، بقوله "إن الوضع على حافة الانهيار. بالذات الأزمة في الولايات المتحدة هي الأكثر خطورة، بغض النظر من الذي في البيت الأبيض - جمهوريا كان أم ديمقراطيا - وبغض النظر عن محاولاته للتغطية على هذه الأزمة. إن العجز الأميركي ببساطة مخيف، ويضع الولايات المتحدة الأميركية في وضع يجعلها تفقد السيطرة على النظام المالي".

وبعد محاولة ممثل الحكومة في البرلمان تقديم اقتراح بإزالة السطور الخمسة الأساسية قوبل بمعارضة شديدة حتى من النواب في حزب الحكومة، مطالبين بالإبقاء على الفقرة لأن هذه الفقرة هي روح الاقتراح والهدف منه. وتم إجبار الحكومة على سحب اعتراضها بعد التوصل إلى حل وسط يقضي بالإبقاء على تلك الفقرة وإزالة الفقرة القائلة إن المؤتمر المقترح هو "مؤتمر مشابه لمؤتمر بريتون وودز الذي عقد في العام 1944".

بعد التوصل إلى هذا الحل الوسط رحب النائب المتحدث باسم الشئون الخارجية لحزب التحالف القومي الحكومي ماركو تساكيرا بسحب الحكومة اعتراضها وإجماع مختلف الأحزاب على هذه القضية، قائلا: "لقد كرمنا البابا يوحنا بولس اليوم، كم من مرة قال البابا إن على قادة دول العالم أن يجتمعوا لمناقشة هذه القضايا"!

حينما تم عرض الاقتراح للتصويت كانت نتيجة التصويت 187 مؤيدا و5 معارضين فقط، بينما امتنع 159 نائبا عن التصويت. وعلى الحكومة الآن وفق القواعد الدستورية للنظام البرلماني الديمقراطي الإيطالي أن تطيع قرار البرلمان. على رغم أن هذا لن يكون تطبيقا آليا، بل سيخضع للآليات السياسية في البلد، فإن التصويت في 6 أبريل/ نيسان هو "الخطوة الأولى" كما قال بعض النواب الطليان في عملية المناقشات والمشاورات بشأن النظام المالي والنقدي العالمي والتي ستستمر في اللجان المختصة في البرلمان في الأسابيع المقبلة.

* كاتب بحريني

العدد 960 - الجمعة 22 أبريل 2005م الموافق 13 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً