كم جمعية لدينا في البحرين؟ السؤال يتشظى: كم جمعية سياسية؟ كم جمعية حقوقية؟ كم جمعية نسائية؟ كم جمعية شبابية؟ كم جمعية متشابهة النشاطات لدينا؟ وقبل ان ننسى: كم ناديا رياضيا لدينا؟ يملك أصحاب الجمعيات السياسية حجة جاهزة أحيانا لهذا التشظي: الجمعية تعبر عن فكر سياسي أو ايديولوجي. لكن الم يستوقفكم مثلا انه في أقل من 3 سنوات أصبحت لدينا نحو 4 جمعيات لحقوق الإنسان؟ أو ان الجمعيات النسائية توالدت بسرعة قياسية إلى الحد الذي اضعنا فيه العدد؟
دعوني اطرح السؤال على نحو آخر بعيد عن هذا كله. هل يفكر الروس الذين يعيشون في بلد مترامي الأطراف يسوده الطقس البارد معظم أيام السنة وتنخفض فيه درجة الحرارة إلى 40 تحت الصفر أحيانا مثلما يفكر سكان الصحراء الكبرى في إفريقيا؟ أو مثلما نفكر نحن في هذه الجزيرة الصغيرة؟
هل يفكر سكان السهوب في منغوليا مثلما نفكر نحن؟ أو سكان تلك الخزانة البشرية التي تدعى الصين مثلما يفكر العرب؟ لماذا يبدو اليابانيون مختلفين عن بقية الشعوب ويشكلون ثقافة وعقلية مختلفة تماما عن باقي سكان العالم؟ لماذا يتمتعون بهذا الإحساس العالي بالانضباط والدقة المتناهية في كل شيء؟
استعيد هذه الأسئلة لأن هناك ما يستوقفني دوما في عقليتنا وطريقتنا في التفكير: الميل للتشظي والتجزيء. استعيد سؤالا آخرا: كيف يمكن الحكم على شعب ما بانه ناضج سياسيا أو انه يتمتع بالذكاء العملي؟
المؤسف ان حصيلة السنوات الثلاث الماضية لا تسعفنا في الحكم على أنفسنا بأننا شعب ناضج سياسيا أو نتمتع بالذكاء العملي والسبب بسيط. سياسيا نحن مازلنا غارقين في الايديولوجيا وجناتها ومقولاتها الحصرية، اما مجتمعنا المدني فهو مازال مثلما كان في زمن أندية الأحياء في الخمسينات والستينات. في ذلك الزمن انتشر شعار يكاد ان يكون موحدا للأندية: الكتاب والشعلة.
اليوم لا تتشابه الشعارات لأن الفنانين التشكيليين والكمبيوتر كفوا عنا عناء التقليد فصارت الابتكارات في الشعارات لا حصر لها. لكن الشعارات السياسية بل البرامج السياسية لعشرات الجمعيات لا تكاد تختلف كثيرا عن بعضها. اقرأوا البرامج السياسية واحصوا الفروقات لن تجدوا الكثير. سياسيا الجميع مع دعم المشروع الإصلاحي، اقتصاديا مع الاقتصاد الحر لكن مع التشديد على حماية الطبقات والفئات الفقيرة ومحدودي الدخل والعمال. البيئة، الجميع مع الحفاظ على البيئة والعمل على خلق بيئة وتوازن بيئي. الجميع يشدد على احترام حقوق الإنسان وعلى المستوى القومي والموقف نفسه من القضايا الكبرى: الاحتلال في فلسطين والعراق والعمل من أجل الوحدة العربية. ماذا بقي إذا؟
لم تبق سوى الايديولوجيا أحيانا، المرجعية الفكرية لتنظيمات كان بعضها حتى الامس القريب يعمل تحت الأرض والآخر استعاد شتاته ولملم الأنصار واعاد الوهج لافكاره المرجعية مع بعض التعديلات الضرورية والبعض الآخر التف حول مصالح اجتماعية. لكن ما الذي يمنع هذه الجمعيات كلها وهي تقف على أرضية واحدة تقريبا ان تصل إلى حدود معينة من الفاعلية تتجاوز هذه الاستعراضات المجانية في حياة سياسية تعددية مستجدة؟
بدأت بالأسئلة وعرجت على مقارنة مع شعوب أخرى مستعيدا ان خلدون وغيره من علماء الاجتماع لأنه إذا كان هناك من خلل تقترحه المقارنات أو الأسئلة فهو في هذا الميل الذي لم يستوقف احدا حتى اليوم للتشظي والتجزيء بكل علاماته التي تصل إلى حد الاضحاك أحيانا. وعندما استعيد سؤالي عن نشأة أربع جمعيات لحقوق الإنسان في أقل من أربع سنوات، فإن ما يستوقفني هنا ليست مشاعر الغبطة بان يكون لدينا هذا العدد الكبير من النشطاء الحقوقيين بل ان هذا الانبثاق السريع والتهافت على إنشاء الجمعيات انما يسير ضد قوانين النمو الطبيعي. لعلكم تجدون إجابة ما باستقراء نشأة المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، لاحظوا فقط ان التواريخ متباعدة قليلا بين نشأة منظمة العفو الدولية وتاريخ نشأة "هيومن رايتس ووتش" مثلا. الفارق عقد ونصف العقد تقريبا من الزمن. فقد تأسست منظمة العفو الدولية عام 1961 فيما تأسست "هيومن راتيس ووتش" في العام 1978 كترجمة عملية لاتفاق هلسنكي الذي وقع عام .1975 هذا هو قانون النمو الطبيعي. فالفكرة الأولى لابد لها من ان تعمل وتراكم الخبرات قبل ان تبدأ الابداعات الأخرى في الظهور كنتيجة حتمية للتجربة وليست بديلا عنها أو مواكبة لها. ففي الحال الأولى هما على تضاد وفي الثانية ستنهكما المنافسة.
ايهما افضل، ان تتاح لتجربة جمعية واحدة ان تعمل وتتطور وتمارس المراجعة والنقد والتقييم وتستفيد من كل الطاقات وترسخ اقدامها قبل ان تثمر افكارا جديدة على شكل منظمات حقوقية نوعية متخصصة في مجالات معينة ام يتم تشتيت كل هذه الطاقات والتوجهات بهذا الخليط الهائل من المهمات والأولويات في أربع جمعيات أو أكثر في مرحلة تأسيس؟ مرحلة مازالت انتقالية لبلد ومجتمع لم يتعاف بعد من ماضيه ولم يترسخ الوعي الحقوقي ولا السياسي ولا أفكار النضال المدني فيه؟ لا يتعلق الأمر بالأفكار أو النشاط نفسه لكن بالجدوى والقيمة العملية لكل هذا التشظي.
هذا المثال يعيد إلى ذهني تلك الفترة من ستينات القرن الماضي التي لم يكن إنشاء ناد رياضي يتطلب أكثر من لوحة صغيرة يعلقها بضعة شبان في أي حي لكي يعلن عن ميلاد النادي. انها عقلية الاحياء القديمة نفسها: شبان ذلك "الفريج" انشأوا ناديا فلنفعل مثلهم. المقارنات تحيلني إلى أمثلة مضحكة لا محالة: المشويات التركية ومطاعم التندوري. فما ان رفعت أول لافتة على مطعم تقول انه مطعم تندوري حتى امتلأت مدننا وقرانا بمطاعم التندوري.
اوه... نعم نميل للتقليد والمحاكاة، لولا هذا لما لازمنا هذا السؤال القلق دوما عن الجدوى والنتيجة والثمار. لما لازمنا هذا الإحساس دوما بأننا لا نتقدم لأن الخلل كامن فينا نحن، في هذه العقلية التي لا ترى أكثر من التشظي والتجزيء على مقاسات صغيرة جدا في بلد لا تزيد مساحته على 711,9 كليومترا مربعا وعدد سكانه بالكاد يصل إلى 450 ألف نسمة من دون الوافدين
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 960 - الجمعة 22 أبريل 2005م الموافق 13 ربيع الاول 1426هـ