كشفت الاضطرابات الأخيرة في إقليم خوزستان الحدودي الإيراني عن عمق الفاجعة التي تعيشها النخب السياسية والثقافية الإيرانية الحاكمة والمحكومة في تعاملها مع قضاياها الوطنية وبؤس الحال التي تمر بها الطبقة السياسية الحداثية التي تصدرت حديثا مواقع الإصلاح والتغيير والمطالبات الجماهيرية بضرورة مواكبة الحاجة اليومية إلى التقدم والرفاهية والتوق للحرية والعدالة لدى الناس.
لا يختلف اثنان في إيران أيا كانت انتماءاتهم الفكرية أو السياسية أو العرقية أو الدينية، على أن سكان ذلك الإقليم ولاسيما الأكثرية العربية منه كانوا الأكثر عطاء للثورة الإسلامية المعاصرة والأكثر فعلا وحياء وعصامية في تعاملهم مع الامتيازات المترتبة على انتصار الحركة الإسلامية بقيادة علماء الدين وتربعها لعرش الحكم، والأكثر وفاء في الدفاع عن حدود الوطن وثغوره في وجه الحرب التي فرضت عليه وعلى شركائه في الوطن لمدة ثماني سنوات عجاف من بعض من يحسبون عليه "عرقيا" إن كانت العربية عرقا! وأخيرا الأكثر صبرا على الغبن الذي لحق بهم أثناء توزيع حصص التنمية والرفاه وإعادة البناء والعمران.
ومع ذلك كله فإنه ما إن جاءت لحظة الحاجة الماسة من قبل سكان ذلك الإقليم المعطاء والصبور إلى تلك الطبقة السياسية وأولئك النخب حتى تركوه لوحده يواجه ساعة المؤامرة والحقيقة معا، تاركين مصيره في مهب رياح الانتهازيين والمتلاعبين بمصائر الشعوب ممن احترفوا ركوب الموج وتفننوا صناعة زرع الفتن والأحقاد وتعميمها واستثمارها لأهدافهم العليا. كيف حصل ذلك؟ إليكم بعض العلائم والأدلة والقرائن كما يأتي:
أولا: بقيت الرسالة الملفقة والمزعومة المنسوبة إلى مساعد الرئيس محمد خاتمي والتي حملت افتراء "التطهير العرقي" للعرب في مضمونها، بقيت لمدة أيام مسكوت عليها من قبل الجناحين الرئيسيين من الطبقة السياسية الحاكمة والمحكومة والمعروفين بالإصلاحيين والمحافظين، فيما كان المستفيدون من الانتهازيين والمتلاعبين الداخلين والخارجين يوزعونها في كل أراضي الإقليم وهي تنشر معها الغضب والحنق كالنار في الهشيم بين الناس، فيما الطبقة السياسية المتربعة في المركز تتبادل الاتهامات والمناكفات فيما بينها بشأن من يقف وراء الرسالة المزعومة أملا في إسقاطه في الانتخابات الرئاسية المقبلة!
ثانيا: أما السلطات المحلية الممثلة للطبقة السياسية بجناحها المتربعة على عرش الزعامة الحزبية في طهران فإنها بدورها أيضا لم تحرك ساكنا لا في تكذيب فحوى الرسالة ولا في اتخاذ الاحتياطات اللازمة، وعندما قررت أن تتحرك بعد "خراب البصرة" طبعا لم تقدم شيئا من "فنون" أدائها المطلوب سوى المعالجة الأمنية السيئة وهي المعالجة التي طالما زادت الطين بلة وأثبتت فشلها في مثل هذه القضايا ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الحاد.
ثالثا: لم ينتبه أحد مطلقا من تلك الطبقة المرموقة لعامل المؤامرة الخارجية التي لطالما حدثنا اليمين عنها ولا لعامل الانتهازية التي لطالما نبهنا اليسار إليها إلى أن كشفتها بعض وسائل الإعلام الأجنبية سواء تلك التي وقعت ضحية امبراطورية "عاجل" الإعلامية أو تلك المترصدة مثل تلك اللحظة لتقدم خدمتها المفضلة للأجنبي أو ما بينهما من حيثيات أخرى أو مسوغات.
وحدهم "حفاة العرب والعجم" ذهبوا ضحية لعبة الكبار الواعين للعبتهم و"الصغار" الجاهلين بواجباتهم ووظائفهم. كيف حدث ذلك؟ إليكم بعض الأدلة والقرائن:
أولا: لقد قالت زعيمة الدبلوماسية الأميركية الجديدة قبل أسبوعين فقط من حوادث الإقليم المذكور إنها لن تحسم موقفها النهائي من الملف النووي الإيراني إلا بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة، ولا يخفى على العارفين والراسخين في العلم أنها تأمل برئيس جمهورية ضعيف لإيران لا يملك من المشروعية والمقبولية الشعبية إلا النزر اليسير وذلك من خلال أوسع مقاطعة شعبية ممكنة تتمناها، ولعبة خوزستان جاءت بالاتجاه الذي تتمناه!
ثانيا: لقد سبق لزعيمة الدبلوماسية نفسها أن قالت إنها تفضل سياسة "الفوضى البناءة" و"زعزعة الاستقرار" في كل محيط الشرق الأوسط الكبير من أجل إشاعة الديمقراطية والتشجيع على الإصلاحات، وهو ما يتطلب عمليا تحريك أو ركوب أية موجة مطالبات عرقية أو قومية أو مذهبية أو دينية في أي مكان في الشرق الأوسط الكبير حتى يتسنى لها أن ترفع راية "الخلاص والإنقاذ" القادمة من وراء البحار! وهو ما كشف عنه الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية آدام إيرلي بعد وقوع الاضطرابات.
ثالثا: لقد سبقت وقائع الاضطرابات الأخيرة اجتماعات مكثفة لرجال في الكونغرس والمخابرات الأميركية في أكثر من عاصمة غربية وفي المقدمة منها واشنطن ولندن مع بعض رجال منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة الموضوعة على قائمة الإرهاب الدولي وأيضا مع رجالات من السافاك الشاهنشاهي من بقايا العهد البائد طلب إليهم التحضير لاضطرابات تشوش على الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة والتعهد للدفع لهم من الموازنة الأخيرة التي خصصت للمعارضة الإيرانية "المدنية" الرافعة للواء الأقليات وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والبالغة 3 ملايين ونصف المليون دولار!
المتتبع لتحركات السفراء الأميركيين المتجولين في عواصم دول الجوار الإيراني ومنهم على سبيل المثال لا الحصر السفير الأميركي في جمهورية أذربيجان المحاذية لإيران من الشمال والذي نقلت الأنباء حديثا أنه قام بجولة في أكثر من مدينة أذربيجانية واجتمع بزعماء المعارضة فيها ووعدهم "بتحسين أداء" التلفزيونات المحلية الكثيرة، يعرف تماما ماذا تحضر واشنطن لطهران من مفاجآت على طريقة خوزستان وخصوصا بعد محاولات شبيهة جرت قبل أسابيع كادت أن تحدث فاجعة شبيهة بفاجعة خوزستان عندما لفقوا رسالة مماثلة لتلك التي فجرت اضطرابات خوزستان والتي زعمت في وقتها بأن السلطات المركزية الإيرانية بصدد تغيير أسماء بعض المناطق الآذرية إلى اللغة الفارسية.
ما يعني أن ما هو مبيت لإيران أبعد من أن تنام عليه الطبقة السياسية الإيرانية المتربعة على امتيازات الزعامة في المركز، تاركة "الأطراف" المليئة بحقول الألغام الداخلية والخارجية في مهب رياح الكبار، ظنا منها أن المعركة الحزبية في العاصمة كفيلة بحسم المعركة لصالحها دوما!
* رئيس منتدى الحوار العربي الإيراني
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 960 - الجمعة 22 أبريل 2005م الموافق 13 ربيع الاول 1426هـ