لجدتي رحمها الله قصة قديمة تُستخلص منها الحكمة، وذلك أن الأسد والنمر والضبع والثعبان قرروا السكن في غرفة واحدة وطلبوا من الثعلب أن ينضم إليهم ولكن الثعلب المكار لم يرفض ذلك صراحة بل ادعى أنه بات حديث الزواج. وفي أول ليلة لسكن تلك الحيوانات مع بعضها، اتفقوا على شروط للعيش فيما بينهم، قال الأسد إنه لا يريد أن يقوم أحد بإزعاجه أثناء نومه، بينما النمر طلب عدم التفرس في وجهه أثناء نومه، أما الضبع فقد اشترط عدم سؤاله أين كان يسهر إذا أتى متأخرا، والثعبان حذر من مغبة أن يطأ أحدهم على ظهره. وفي أول تجربة لهذا الاتفاق حدثت الكارثة. أتى الضبع متأخرا كعادته، فلم يتمالك النمر الذي ينام دائما وإحدى عينيه مفتوحة من سؤاله أين كنت طوال الليل؟، فغضب الضبع ولكن النمر لم يهتم لغضبه، إذ أردف مرة أخرى لماذا تنظر إليّ هكذا؟، ونشب العراك بينهما، وسرعان ما قتل النمر الضبع، فنهض الأسد من نومه ثائرا وضرب النمر بيده اليسرى ومن ثم انهال على عنقه قضما، مات النمر. وأثناء المعركة وطأة قدم الأسد ظهر الثعبان فقصم ظهره. وقبل أن يموت الثعبان لدغ الأسد فزرق فيه السم القاتل. بعد ذلك حل على المكان صمت القبور...
قالت جدتي من بين فجوات أسنانها الساقطة إن الثعلب قدم كعادته باكرا فوجد منزل الساكنين الجدد مغلقا إلى ما بعد شروق الشمس. لم يقرع الباب ولكنه ابتسم ومضى. وعندما تصل إلى هذا الحد من الحكاية كانت جدتي أيضا تبتسم مغتبطة.
هذه الحكاية الصغيرة (وهي نتاج مخيلة فلاحية رعوية) تنتصر بضرورة البيئة العشائرية المغلقة التي أنتجتها لحكمة الثعلب الانعزالية أو لقيمة المكر (فطنة البدوي)، لكنها تغفل جرأة المحاولة. إن النتيجة غير المرضية لجهد ما لا يمكنها إلغاء الدوافع الحسنة منه. لقد خالف النمر ما أجمع عليه سكان البيت، وهذا كل ما في الأمر!. إذا المخيلة الرعوية ليست قادرة بالضرورة على استشراف قيم المجتمع التفاعلي والمتعدد والذي يجب أن يراعي فيه كل فرد حقوق الآخر مما يرتد إيجابا بالحفاظ على حقه هو الخاص وأمنه الخاص وسلامة الخاص وطمأنينته الخاصة.
ربما كانت الحرب مقررا تاريخيا لا مفر منه في كثير من الأحيان، أي حتى توفر الإقناع العملي لمجتمعات العزلة بضرورة التعايش مع الآخر المختلف عرقا ولونا ودينا والذي قطعا انعزالي ومنغلق بدوره، أي حتى تدفع بالمجتمع درجة في اتجاه التعايش التفاعلي والمتعدد، وإلا فالأحتكام إلى الحرب أي الموت ضد ما يكافح الناس للاحتفاظ بها أي الحياة. في عصور ما قبل التاريخ كانت الحرب نشاط اقتصادي شبه يومي بين القبائل والعشائر بما في ذلك التي تتحدث لغة واحدة وتنتمي إلى أصل عرقي مشترك. إذ إنها إرث بشري ما قبل إنساني تحفزه دواعي البقاء. ونشأت الأديان والفلسفة في ظل الحروب وكانت مسوغاتها لرفض قتل الإنسان لأخيه الإنسان بمثل المبررات التي تسوغ شرعية الحروب بل قدسيتها أحيانا كثيرة.
إذا هل الحرب محطة تاريخية يجب على كل الشعوب الوقوف عندها؟. وهل كانت من أحد عناصر الوحدة وظهور القوميات المتعاضدة وشكل الدولة الحديثة؟. هل يحدث ذلك لأن الحرب تؤدي للقضاء على الشعوبية والتخفيف كثيرا من مظاهر الكراهية والنعرات العرقية وإن كانت هي سبب اندلاعاتها المتكررة. لقد شهد التاريخ تحارب كثير من الفرقاء وإزهاق الكثير من الأرواح لأجل أفكار متعالية وعنصرية ولكن عندما تصيب الحرب كل الأطراف بالإعياء يعلو صوت العقل المنادي بالتعايش وقبول الآخر. ومن داخل تلك اللغة الزاخرة بالتهجم والمتعالية والانعزالية نفسها يتم تأويل لغة السلم. لكن في عصور ما بعد المعرفة والتجربة الإنسانية الحقوقية التي نعيشها لماذا مازالت الحرب القدر الإنساني الأكثر إيلاما؟. هل لأن الإنسان لم يتقاسم تجارب البقاء بالقدر نفسه وأن هنالك الكثير من المجتمعات مازالت تعاني مخاض الانتقال لأنها لا تود قراءة التاريخ إلا بطريقتها الخاصة عبر تجارب الخطأ والصواب.
ربما احتاج الإنسان إلى ثلاثة ملايين عام حتى يستر جسده لدواعٍ ثقافية عوضا عن الضرورة البيئية ويتكون فيه ضمير ما ويطور مدركاته لشروط بقاء جنسه ووحدة مصيره. فهل مازال الدرب طويلا حتى يتمكن من القضاء على الكراهية والجشع وضيق الأفق؟.
لقد ساهمت القلاع في العصور القديمة إلى حد ما في حماية المدن لكن المدنية الآن تحميها القوانين بينما أصبح أعداء المدنية والمجتمع الآن أكثر قدرة ومضاء على إصابته بالأذى وإيقاف نشاطاته الحيوية وإن قنبلة صغيرة يمكنها أن تغرق مدينة في الظلام والفوضى. الآن تتوافر الفرص أكثر مما مضى لتخريب العالم، إذ كلما أصبحت الحياة أكثر تنظيما واتساقا تسهل إصابتها بالأضرار وإشاعة الذعر فيها بعد أن أضحت المدن مأوى للملايين من البشر.
إن المقولة القديمة التي تقول (السلام هنا يعني أن الحرب هناك) لم تعد تحظى بمدلولها التفاؤلي اليوم، لأن آثار الحرب لم تعد تقتصر على جغرافية بعينها، وإنما تتسبب بتداعيات إنسانية ينعكس تأثيرها إلى أبعد الأرجاء (التي لم تعد بعيدة)، لم يعد هنالك أي عمق آمن لن تطاله أنشطة الحرب والإرهاب.
ونسبة لدور التعصب الديني في إذكاء الكثير من الحروب يصبح من الضروري التساؤل: هل أن عدم وجود الأديان كان سيشكل خطرا على التعايش الإنساني أكثر مما يشكله وجود الأديان الآن؟
إن الأديان أجابت على الأسئلة الكبيرة التي واجهت الإنسان في مرحلة عوزه المعرفي، والتعاليم الدينية تدعو للسلام والحفاظ على كرامة الإنسان وعدم سفك الدماء والتسامح. لكن مفاهيم القومية والجغرافية والشعوبية قوضت المعنى الإنساني الشامل الذي تتضمنه الأديان، وأضحت حصان طروادة بعد أن نزعت صفتها الكلية الموجهة للذات البشرية وانتحلت النزوات الفردية للاستبداد والسعي للسلطة وكراهية الآخرين والتعصب.
لقد أدى تسارع اندماج المجتمع الدولي في نظام عالمي واحد من حيث الاقتصاد ونظم الحكم، أدى ببعض الشعوب للخوف من فقدان الهوية مما عمق الجرح النرجسي لتلك الشعوب، وبالتالي أصبح هنا الانكفاء على التراث الديني هو العنصر الفاعل لمجابهة خطر الذوبان، لكن مع ذلك يصبح الفقر هو من أكبر عوامل الاستقطاب والمغذي الرئيسي لعوامل عدم الاستقرار وتهديد السلام، إن وحدة مصير سكان هذا العالم تؤكده الكوارث الطبيعية والتي لا تصيب شعوب بعينها لسبب الدين أو العرق، وهو ما يؤمن على ضرورة التآزر في عالم اليوم الذي يمكننا فيه تصنيف الدول بصيغة الأحياء الغنية والأحياء الفقيرة لأن كوكبنا أصغر مما كنا نظن وسريع العطب بقدر لا يمكن تداركه إذا لم نعِ ذلك.
إن مقولة إن السلم هنا يعني الحرب هناك، يجب أن تتم إعادة صياغتها لتواكب مقتضيات عالمنا الحديث بأن تصبح (السلم هناك يعني السلم هنا).
* صحافي وكاتب من السودان، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2404 - الأحد 05 أبريل 2009م الموافق 09 ربيع الثاني 1430هـ