شكل تأثير إيران في العراق في المرحلة اللاحقة لسقوط نظام صدام حسين واحدا من أبرز القضايا التي احتلت الأولوية لدى المهتمين بالشأن العراقي، وكثيرا ما حمل مسئولون أميركيون إيران مسئولية التدخل في العراق بشكل مؤذ. كما اتهمها زعماء عرب بالسعي لإقامة جمهورية إسلامية، واتهمها مسئولون عراقيون بارزون بالقيام بسلسلة من التدخلات غير المشروعة "التلاعب في الانتخابات ومساندة التمرد والتسلل إلى البلاد"، والعمل على تعويق استقرار الأوضاع الأمنية في العراق.
لكن بقي ذلك كله مدار التصريحات السياسية والتجاذبات الإعلامية من دون أن تتوافر أدلة واضحة عن مدى التأثير الإيراني في العراق. وفي إطار السعي لمعرفة حقيقة حجم النفوذ والتأثير في العراق، قام فريق من مجموعة إدارة الأزمات الدولية في بروكسل خلال أشهر من البحث الموسع في كل من إيران والعراق بتحديد وتوصيف النفوذ الإيراني في العراق عبر تقرير نشرته المجموعة نهاية مارس/ آذار الماضي.
والنتيجة الأساسية التي يتوصل إليها التقرير هو أن إثبات التدخل الإيراني لمحاولة القضاء على الاستقرار في العراق هو أقل اتساعا ووضوحا إلى حد بعيد مما يتم الادعاء به أو زعمه.
ويوضح التقرير ان الفكرة العامة المتمثلة في أن إيران مصممة على القضاء على استقرار العراق وصوغ سياساته بشكل حاسم "عن طريق الأموال أو إرسال مئات الآلاف من مواطنيها"، أو تأسيس حكومة ذات ميول مماثلة ومذعنة لها، أصبحت مقبولة بشكل واسع في العراق والعالم العربي والولايات المتحدة. وأصبح لها الآن أثر مغر في تشكيل المدارك الحسية؛ وإذا استمرت من دون تحد، فإنه من الواضح أن تتعرض لمخاطرة القيام بتحديد سياسته.
ويقول التقرير في إطار استطراده للقضايا التي تثير الشكوك لدى الكثير من المسئولين العرب والعراقيين والأميركيين على حد سواء من السياسة الإيرانية إزاء العراق، هو أن إيران تدعم العنف المناهض للتحالف في العراق، وازدادت هذه الشكوك لتتحول الى هاجس كبير ابان انتفاضة مقتدى الصدر في ابريل/ نيسان 2004 فضلا عن اتهام إيران بتسهيل حركة الجماعات من أمثال أنصار الإسلام، وأنها كانت مسئولة عن اغتيال مسئولين في جهاز الأمن العراقي.
ويعترف التقرير أن هذه الهواجس تعمقت بعد الفوز الذي حققته قائمة الائتلاف العراقي الموحد في انتخابات يناير/كانون الأول 2005 المتعلقة بالجمعية الوطنية الانتقالية، ولاسيما أن الائتلاف استند في تكوينه على الفعاليات الشيعية السياسية الأساسية، وخصوصا الأحزاب الثلاثة في داخله والتي لديها روابط طويلة الأمد مع إيران، وهي: المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والدعوة، والدعوة - تنظيم العراق.
يبدو أن صعود الإسلاميين الشيعة عبر هذه الانتخابات برر آراء من يشكون في محاولة إيرانية لإقامة حكومة دينية "ثيوقراطية" موالية. غير أن التقرير يستدرك فيؤكد أنه "ليست هنالك دلالة بأن التلاعب في الانتخابات هو أكثر من مجرد تخمين، أو أن فوز وانتصار الشيعة كان أكثر من مجرد ترجمة سياسية لسيطرتهم الديموغرافية. كذلك، لم يتم تقديم أي دليل ملموس وواقعي لتعزيز الادعاء بأن إيران كانت تروج بنشاط للتمرد أو تحاول زيادة عدم الاستقرار إلى الحد الأقصى".
ويشير التقرير في إطار المعطيات - التي يقدمها حول النتيجة الأساسية التي يخلص إليها - إلى أن التدخل الإيراني يظل أقل اتساعا ووضوحا مما يتم الادعاء به، ويقول إنه لا توجد شكوك من أن "لإيران مصالح حيوية فيما يحدث في العراق". لكنها حتى الآن "مارست نفوذا ينطوي على تحفظ كبير". ويقر التقرير أن الواقع يؤكد "أن لديها القدرة على القيام بأكثر من ذلك بكثير وأسوأ من ذلك إلى حد بعيد".
ويوضح "إن قوة إيران تكمن في مكان آخر. وبعد أن خاضت حربا قاسية وموجعة لمدة ثماني سنوات مع العراق في عقد الثمانينات من القرن الماضي، فقد أصبحت وكالاتها الأمنية على اطلاع كبير بالتضاريس الطبيعية والسياسية لأرض العراق، كما أصبحت قادرة على الاحتفاظ بوجود استخباراتي نشط في جنوب العراق وفي بغداد وكردستان. وتشتمل أذرع النفوذ الإيراني على شبكة واسعة الانتشار من المخبرين المدفوعي الأجر وفيلق الحرس الثوري الإيراني والدعاية الدينية الممولة وحملات الرعاية الاجتماعية. ويتمثل الأمر الأكثر أهمية في أن إيران حاولت التأثير على العملية السياسية في العراق من خلال تقديم المساندة، وخصوصا للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق".
ويتابع التقرير "أن سجل العامين الماضيين يوحي بوجود حافز إيراني راسخ للتدخل في العراق وعبر الكثير من الأنشطة الإيرانية". لكن التقرير نفسه يقر بأن الحصيلة الواضحة "أن التناغم ضئيل، وبالتالي التأثير الإيراني ظل محدودا لا قيمة له، على المجتمع العراقي". ويعزو سبب ذلك إلى "وجود شك واستياء عميق لدى الكثير من العراقيين تجاه جارتهم"
العدد 958 - الأربعاء 20 أبريل 2005م الموافق 11 ربيع الاول 1426هـ