يوم الأربعاء يوم أحاول أن أخصصه للمرح السياسي الأدبي الساخر ولأسرار الأدباء، فالأديب إذا كشر عن أنيابه يخافه الناس وقلما تجد أديبا بلا أنياب. غضب محمود السعدني فكتب كتيبات أسماها: زمن الحمير وعودة الحمار وحمار من الشرق وكذلك وداعا للطواحن وهكذا كان المتنبي شاعرنا الكبير فقد وقف يوم كان على وفاق مع كافور الأخشيدي الذي حكم مصر في عهد المماليك وقال شعرا فيه وكان أسود اللون:
وهبني قلت هذا الصبح ليل
أيعمى العالمون عن الضياء؟
مرت الأيام واختلف المتنبي مع كافور فهجاه بأقذع قصيدة فلم يترك جزءا في جسده لم يصب عليه غضبه إذ وصفه بأنه: "خصي" و"أسود مثقوب المشفر" والمشفر هي شفة البعير، فقال فيه:
صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
وإن ذا الأسود المثقوب مشفره
تطيعه ذي العضاريط الرعاديد
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
أم أذنه في يد النخاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود؟
وفي زمننا الحاضر نرى نزار قباني يوما يمدح جمال عبدالناصر ويوما يصب عليه جام غضبه بعد حرب حزيران قال فيه:
لو أحد يمنحني الأمان
لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان
قلت له: يا سيدي السلطان
كلابك المفترسات مزقت ردائي
ومخبروك دائما ورائي
يستجوبون زوجتي ويكتبون عندهم
أسماء أصدقائي
وصارح جمال بحنقه قائلا:
يا سيدي السلطان
لقد خسرت الحرب مرتين
لأن نصف شعبنا ليس له لسان
لأن نصف شعبنا محاصر كالنمل والجرذان
الرئيس عبدالناصر اختلف فيه، وعادة الشخصيات الكبيرة يختلف فيها وتكون محل جدل.
أحمد رجب أو محمود السعدني كان أحدهما كتب توصيفا في حكم عبدالناصر والسادات، فقال: "عبدالناصر موتنا من الخوف، والسادات موتنا من الضحك"... وهكذا وجدنا المغالاة تطفح. مصطفى أمين ومصطفى محمود وأنيس منصور وجدوا في حكم الناصريين حكما فاشستيا، وهيكل وحمودة وغيرهما رأوا فيه حكما عادلا. هيكل ألف كتاب "خريف الغضب" أزال بحروفه جميع مزايا السادات، وأنيس منصور كشر عن أنيابه فألف كتابا ضد عبدالناصر أسماه "عبدالناصر المفترى عليه والمفتري علينا". وكذلك صلاح عبدالصبور الشاعر الذي مدح ثورة يوليو والزعيم ثم انقلب عليه.
نزار قباني مدح معمر القذافي وصدام حسين في عدة مقالات، ففي كتابه "الكتابة عمل انقلابي" "ص 49" راح يقول في صدام: "يفتح صدام حسين أبواب ذاكرتي بابا بابا ويوقظ أحلامي الأندلسية حلما حلما... ويأخذني إلى حصانه... من شارع الرشيد إلى شارع خوسيه انطونيو في مدريد ومن جامع الإمام الأعظم... إلى جامع قرطبة"، وفي ص 250 قال في القذافي: "لا نلتقي مع الرئيس القذافي في فكره الديني، ولكن هذا لا يمنعنا من عشق طفولته، وصدقه وبراءته". في الكتاب ذاته يهاجم نزار أدعياء العروبة والوحدة العربية. من كرهوا السادات أيضا لم يرحموه، فألفوا كتبا تمس حتى حياته الشخصية... نحن كعرب عندما نكره إنسانا نقول فيه ما نعرف وما لا نعرف، وننكش حتى أوراقه الخاصة ونفتش عن حياته وحياة أسرته... يوم أمس قرأت كتابا سيكولوجيا لسمير عبده اسمه "التحليل النفسي للسادات"... الكتاب جميل لكنه لا يخلو من أحكام مسبقة ومن مشاعر شرقية تفتقد صوابية التقييم.
لست هنا في مقام محاسبة أدبائنا بقدر ما أطرح انفعالاتهم، فلا أحب أن أنصب نفسي محكمة كمحاكم التفتيش لأحكام النوايا.
من أحلى القصائد، قصيدة الشاعرة الكويتية سعاد الصباح في رثاء زوجها عبدالله المبارك، أسمتها آخر السيوف، وأشارت في القصيدة إلى الغزو العراقي، قائلة:
الإخوة الأعداء مروا من هنا
كي يملأوا تاريخنا تزويرا
غدروا بهارون الرشيد وأحرقوا
كتب التراث وأعدموا المنصورا
عبثوا بأجساد النساء ودنسوا
قبر الحسين ودمروا تدميرا
قضموا الكويت كأنها تفاحة
ورموا ثياب القاصرات قشورا
من ذا يحاسب حاكما متسلطا
ذبح الشعوب حماقة وغرورا؟
خذلوك، يا شيخ العروبة عندما
جعلوا العروبة مسلخا وقبورا
ذبحوا الطموح الوحدوي، من الذي
يرضى بأن يتزوج الساطورا؟
أنت الربيع فلو ذكرتك مرة
صار الزمان حدائقا وعبيرا
هكذا هم الشعراء، إذا كرهوا كرهوا، وإذا أحبوا أحبوا. والعقلية العربية في العمل السياسي والاجتماعي والثقافي لا توازن فيها ولا موضوعية، وقليل هم المنصفون.
الإمام علي "ع"، قال: "هلك في اثنان، محب غال ومبغض قال".
الأديب يحمل ريشة تارة تحمل قساوة ظفر النسر، وتارة نعومة ريش النعام، وما بينهما يسقط ضحايا وضحايا
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 957 - الثلثاء 19 أبريل 2005م الموافق 10 ربيع الاول 1426هـ