مثل أي مؤسسة في الدولة، تحاول الأجهزة القضائية أن تساير متطلبات المشروع الإصلاحي. أقول تسايره، لا أن تلبي كل شروطه... وحتى ذلك مازال بعيد المنال، فكما وضعت السلطات يدها على البرلمان، فلن يكون سهلا أن ترفع يدها عن أجهزة القضاء، لإدراكها خطورته ودوره الموازي، وانتصاره إلى الصالح العام، وحقوق المواطنين "العاديين"، لا أصحاب النفوذ، الذين اعتادوا قول: "كن فيكون"، للقضاء وغير القضاء.
على أن التبعية للسلطات التنفيذية، كما تبرز خصوصا في أداء النيابة العامة وتوجهاتها وأولوياتها، ليست إلا وجها واحدا من وجوه الخلل المتراكم من إرث العهد "البائد" لقانون أمن الدولة، وهناك وجوه أخرى لا تقل سوءا، من بينها عدم توافر المعايير الأساسية لضمان أجهزة كفؤة، تقوم بواجبها في تحقيق العدالة، في مدة زمنية معقولة، وهو ما يستدعي وجود عدد كاف من المحاكم، يشتغل فيها قضاة متمهنون، ضمن ضوابط ونظم صارمة، ورقابة مؤسسية، وقدرة الخصوم على التظلم ضد الأحكام... ولعل غالبية هذه الشروط غير متوافرة بالقدر المطلوب داخل الجهاز القضائي المتشعب، بين محاكم مدنية، جنائية، وعمالية، وشرعية... وأول ما يلاحظه المراقب حين يتفحص المشهد، عدم وضوح العلاقة بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء من جهة، وبين هاتين المؤسستين والمحاكم من جهة أخرى، ما يجعل الأخيرة متذبذبة بينهما، وما يفقد المحاكم أحيانا ما يفترض أن يكون استقلالا تاما، يوفر حدودا معقولة من شروط الحياد بين المتخاصمين.
على أن الإشكال "الأعظم" في القضاء عموما، مدني وشرعي، يتعلق بسياسات التوظيف، غير الحصيفة شاهرا ظاهرا، والتي لا يحكمها ضابط ولا معيار، إذ تأتي التعيينات من "عل" من دون أن يعرف أحد لم اختير فلان، ورقي علان، وتم تجاهل فلتان.
وهو ما جعل بعض من جلس على كرسي القضاء، لا يعرف المبادئ الأساسية في القانون، ناهيك عن متابعة مستجداته، ويمكن تصور الأحكام التي يصدرها قاض كهذا، ستحكمه بالضرورة، إضافة إلى ضوابط القانون، إن وجدت، ثقافته ومواقفه السياسية، ومدى تفهمه لمتطلبات حقوق الانسان، والديمقراطية والشفافية التي ربما لم يسمع عنها قط... الاقتراحات بشأن التوظيف ليست جديدة، فكأي وظيفة أخرى، التقنين أساسي للاختيار: إعلان في الصحف، يتضمن المؤهلات المطلوبة، وامتحانات تفرز الصالح، ولجنة محايدة تشرف على الاختيارات... كل ذلك ليس بدعة "غير حسنة"، ولا يفهم أسباب استثناء القضاة من هكذا معايير.
ويبدو أن الخطأ يكمن في المجلس الأعلى للقضاء، الذي يرفع الأسماء إلى الملك، بوصفه رئيس السلطة القضائية، ليصدر مراسيم التعيين، وبحسب المصادر فإن جلالته يلتزم عموما باقتراحات ما يمكن أن أسميه الإدارة التنفيذية للمجلس القضائي، ولا يعرف المبرر الذي يجعل الأخيرة ترفع الأسماء بلا ضوابط معلنة.
ولعل الإشكال، بشأن ذلك، في المحاكم الشرعية أوضح، ربما لصلته المباشرة بحقوق الأسرة، والمرأة التي أهينت، ولا تزال كثيرا في قاعات القضاء، باسم الشرع والقانون وحفظ الدين.
لقد اتخذت إجراءات لا يصح تجاهلها، وبعضها بدا "ثوريا"، مثل إقصاء عدد من القضاة من مناصبهم، وإن كانت الطريقة التي تم بها ذلك تعوزها الضوابط، في ظل عدم جواز إعفاء القاضي من عمله، كما ينص القانون، الذي يأمل من هذا الشرط توفير ضمانة أكبر للقاضي ليقوم بواجبه من دون ضغط من أحد، بما في ذلك الذي عينه، لأن تعيينه مدة أقرب إلى مدى الحياة يقيه شر الخوف على رزقه إن اختار السير في طريق الحق وأصدر أحكاما ليست على هوى المتنفذين... لذلك فإن المطلوب دائما وأبدا في التعاطي مع القاضي، زجرا أو تأديبا أو إعفاء... لجان تحقيق قضائية، وتقارير شفافة، وإجراءات تتخذ في ضوء بيانات معلومة، لعموم المعنيين بالشأن القضائي، والرأي العام أيضا.
على أن الإقصاء المذكور مثل، على رغم علاته الإجرائية، نقلة عملية، أتت بدماء جديدة، في القضاء الجعفري، مثلا، مؤيدة للاصلاح، وساعية إليه، وربما متسرعة في تحقيقه، أو هكذا بدا حين هم رئيس محكمة الاستئناف العليا الجعفرية السابق الشيخ عبدالحسين العريبي بالاستقالة، بعد بضعة أشهر من تعيينه، لأن استجابة السلطات لخطوات الإصلاح التي نادى بها كانت "بطيئة"، كما قال، ولا يعرف إن كانت هناك أسباب أخرى، سياسية أو غيرها وراء الاستقالة.
وخلف العريبي، الشيخ حميد المبارك المعروف أيضا، كسلفه، بتوجهاته الإصلاحية، ورؤيته للمحاكم ضمن سياق المشهد العام، المطبع مع السلطات ابتداء. وسمعت أنه ينتقد أحيانا بعض التوظيفات التي لا تتم ضمن معايير واضحة، ويهتم بالتدريب، ويدعو للرقابة على المحاكم، ويطالب بقرار ملزم يمنع القضاة من العمل بأجر خارج المحكمة، وينادي بانفتاح القضاء الشرعي على الفتاوى الجديدة، مثل أن تقوم المحكمة بتطليق المرأة، مع رفض زوجها، إذا ثبت وقوع الضرر عليها، وهو ما يسمى بالطلاق القضائي أو الضرري، وكذلك ينادي بالأخذ بالطلاق الخلعي، بما يمكن المحكمة من تقدير "البذل" الذي تدفعه المرأة نظير طلب طلاقها، للحؤول دون تعسف الزوج، بدل وقوف المحكمة مكتوفة اليد إذا غالى الزوج في طلب البذل، فضلا عن رؤى أكثر قربا من الواقع فيما يخص الوقف وصرفه.
إن استكمال المؤسسات القضائية، ووجود أجهزة داعمة للقاضي الشرعي، مثل النيابة الشرعية، والتنفيذ الشرعي أو الأسري، التي ترعى الأسرة رعاية خاصة، بما يمكن من الاستعجال في تنفيذ الأحكام الأسرية، بدل تعطيلها كما يحدث الآن، وكذلك تشكيل هيئة للنفقة، تدرس المداخيل وتحدد ما يتوجب على الزوج دفعه، وإنشاء صندوق للنفقة يقوم بالصرف للمحكوم لهم بقدر النفقة، ويحتسبه دينا ممتازا على المحكوم عليه إذا تعذر على التنفيذ تحصيل النفقة من المحكوم عليه لأي سبب كان... كل هذه أمور يمكن أن تساهم عمليا في حل جزء من إشكالات القضاء الشرعي.
والحاجة ماسة لمؤسسة رقابية، تدرس القرارات والأحكام، وتلاحظ سلوك القضاة في قاعة المحكمة، ويكون لها إلفات نظر القضاة بشكل مستمر... وذلك أن جهاز التفتيش القضائي الذي شكل قبل سنتين لا يفي بالغرض المنشود، كما ينبغي مد سلطة محكمة التمييز لتشمل النظر في أحكام المحاكم الشرعية، بما يؤدي مع الأيام لقيام ما يعرف بفقه القضاء، الذي يكون مرجعا لوضع مدونة للأحوال الشخصية، ضمن الضوابط الشرعية.
ولضمان سير العدالة، لا بد من استكمال التشريعات، وتطوير قانون الاجراءات أمام المحاكم الشرعية، وإصدار قانون الأحوال الشخصية، بما يمنع من تناقض الأحكام، ويبني أرضية مشتركة للفهم بين القاضي والخصوم والمحامين، بدل الوضع الراهن الذي يدخل فيه المحامي قاعة المحكمة الشرعية أعمى، ومن دون خريطة طريق.
النص الدستوري في المادة "104" يتحدث عن استقلال السلطة القضائية، في حين يرى تقرير التنمية الانسانية للعام ،2004 أن هناك فرقا بين ذلك، وبين استقلال القضاء، واستقلال القضاة. وفي البحرين الشك وارد بقوة بشأن استقلال كل تلك المصطلحات، ويزداد الأمر سوءا بالنظر إلى ضعف الأذرع الأخرى المساعدة على أن يؤدي القضاء دوره.
وفي واقع، يأمل أن ينطلق إلى مزيد من الشفافية، للحفاظ على ما تبقى من المال العام والحقوق العامة، وزيادة الثقة في النظام الاقتصادي، بعد ثلاثين عاما من العبث الممنهج، فإن استمرار الأجهزة القضائية بطيئة في التعاطي مع متطلبات عصر استجد منذ ،2002 قد يعكس تلكؤا يشير في جانب منه إلى أن إصلاح الأمور لن يكون بالصورة والسرعة التي يأملها الناس، وهذا باعث على الاحباط، على أي حال
العدد 957 - الثلثاء 19 أبريل 2005م الموافق 10 ربيع الاول 1426هـ