أزعم أننا مقدمون على صيف ساخن، شديد الحرارة، قد يصل للأسف إلى درجة الغليان.
والسبب ليس مجرد حرارة الطقس، ولكن التهاب الأوضاع السياسية التي تلفنا وتلتف من حولنا محليا واقليميا ودوليا، اذ لم يعد أمر هذا الالتهاب السياسي، والعسكري أيضا قاصرا على بؤر التوتر التقليدية المعروفة، فلسطين والعراق والسودان والصومال، لكن الأمر انتقل ربما بفعل العدوى الى سائر بلدان الوطن العربي.
وها نحن نلاحظ تزامن الالتهاب السياسي مع الأمني والعسكري، واختلاط الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي بما يحمله من بوادر انفجار، وبما يعبر عنه من غضب جماهيري، مع الاحتقان السياسي الداعي إلى الاصلاح والتغيير، بينما الضغوط الداخلية والخارجية تتزايد يوما بعد يوم ودرجة بعد أخرى، في حين يقف أصحاب الحل والعقد حيارى مذهولين، من سرعة التطورات أو من عدم القدرة على التصور والخيال والرغبة في الخروج من البرزخ!
ولذلك نزعم أن الصيف الطويل المقبل، لن يمر من دون ضحايا، ومن دون وقوع حوادث كبرى تغير من أوضاع المنطقة، بالسلب أو بالإيجاب، لكن أحدا لن يستطيع التنبؤ بمداها ولا بنوعيتها المتراوحة بين التغيير السلمي والوفاقي الاصلاحي، وبين التغيير الحاد والعنيف ما بين التغيير من الداخل أو التغيير المفروض من الخارج.
وبقدر ضبابية الرؤية وقصور الخيال وتقصير السياسة، الذي استولى على النظم الحاكمة في بلادنا، تجاه مجمل التطورات الجارية حاليا والتي ستحدث غدا ومعظمها انقلابي الطابع، بقدر وضوح الرؤية واتساع الخيال وقوة التدخل الواضحة في عمل ونشاط القوى الكبرى الطامحة وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية.
لم يعد سرا أن الولايات المتحدة الأميركية تنسق بشكل دقيق وجاد مع الاتحاد الأوروبي ومع حلف الاطلسي "الجناح العسكري للتحالف الأوروبي الأميركي" لاجراء تغييرات جذرية في البلاد العربية، تشمل ضمن ما تشمل تغيير مناهج التعليم والثقافة وإعادة هيكل الاعلام والصحافة، وأوضاع المرأة والجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني، وصولا إلى قمة الحكم أي الحكام وأساليب الحكم.
ولقد نجح التدخل الأوروبي الأميركي على مدى العقود الثلاثة الأخيرة في تمهيد الأرض أمام نجاح السيطرة وذلك عن طريق تشجيع التحولات الاقتصادية السريعة المفاجئة باسم الاصلاح الاقتصادي والتحول الهيكلي وتحت اشراف المؤسسات الدولية المعروفة مثل "البنك الدولي وصندوق النقد"، وهو ما أطلق في النهاية مبدأ "السوق الحرة" وفك قيود الدولة الوطنية على الاقتصاد واسقاط التخطيط المركزي وأطلق العنان للأقوياء على حساب الضعفاء والفقراء.
وعلى رغم ما في تحرير الاقتصاد والتجارة من ايجابيات، فإن التأثيرات السلبية الكثيرة للتحولات المفاجئة هذه، أدت الى ما نراه الآن شائعا من اتساع مساحة الفقر والبطالة وغلاء الأسعار وزيادة التضخم والديون، وحدة الضغوط الاجتماعية على الطبقات الوسطى والفقيرة في المجتمعات كافة، الأمر الذي أنتج أزمة اقتصادية اجتماعية خانقة، ولدت الاحباط واليأس بل والضعف أيضا.
الآن... وصل التحالف الأميركي الأوروبي الى نتيجة حاسمة بعد أن جرى تمهيد الأرض، وخلاصتها ان الوقت قد أزف وتحديدا خلال عامي 2005 - 2006 لاجراء عملية جراحية كبرى، تتناول أساسا تغيير صمامات القلب وتوسيع وتدعيم الشرايين في جسم "الرجل المريض" ونعني تغيير نظم الحكم العربية المتهمة بالفساد والاستبداد، على غرار ما جرى في دول عدة بشرق أوروبا "ورومانيا واوكرانيا وجورجيا" وعلى غرار ما يجري الآن في دول وسط آسيا، بدءا بقرغينستان!
ولعل القراءة السليمة والمتابعة الدقيقة لدراسات وتصريحات كبار المتخصصين والمسئولين الأميركيين من إدارة الرئيس بوش تدلنا بوضوح على ان السياسة الأميركية المستوردة أوروبيا، عازمة على التدخل المباشر وعلى الضغط الخشن للإسراع بتغيير الأوضاع السياسية الحاكمة في الشرق الأوسط، وتدلنا أيضا على ان "الحرج القديم" من فرض الأمر الواقع لم يعد قائما كما لم يعد قائما اليوم مراعاة "الاصدقاء والحلفاء التقليدين" في المنطقة، وأهم هؤلاء، تحديدا، يوصفون على ألسنة كبار المسئولين الأميركيين وعلى شاشات التلفاز وصفحات الصحف، بأوصاف الفاسدين والطغاة والمستبدين الذين قهروا شعوبهم بالحديد والنار والذين يجب اسقاطهم الآن قبل الغد!
القراءة الدقيقة تدلنا ايضا على ان التدخل الخارجي هذا ليس عشوائيا او وقتيا يهب كرياح الخماسين ثم يهدأ سريعا، لكنه تدخل منهجي مبرمج عبر ترجمة "مشروع الشرق الأوسط الكبير" من مجرد أفكار للاصلاح ورؤى للتغيير المأمول في البلاد العربية والإسلامية، الى برامج عمل وخطوات تنفيذ وهياكل إدارية دفينة وموظفين وخبراء ومتخصصين في السياسة والاقتصاد، في الدعاية والاعلام، في ابتزاز الحكومات وفي إغواء منظمات المجتمع المدني، في حشد المظاهرات وإثارة العنف وتهييج الطوائف والفئات الاجتماعية.
وتأمل عزيزي القارئ فيما يجري حولك، وخصوصا هذه التدفقات التمويلية الهائلة، المنظورة وغير المنظورة على الجمعيات الأهلية والمنظمات والنقابات، وتأمل الاختراق الواضح للأحزاب السياسية والهيئات المهنية، وتأمل التركيز على ما يسمى "إعادة هيكلة الصحافة والاعلام، ليس فقط بإصلاح ما هو قائم منها، بل اساسا بهدم هذا، وانشاء اعلام جديد، وتمويل صحف ومجلات واذاعات وتلفزيونات كثيرة كله جديد في جديد، يحمل تباشير ما هو قادم من تغيير مفروض يرجع صداه تحالف المتأمركين العرب النشطاء هذه الأيام!
من الآن حتى نهاية العام ستشهد المنطقة تسخينا حارا في تطورات الحوادث، وصولا ربما لاثارة الاضطرابات واشعال الحرائق والقلاقل، تطير خلالها رؤوس وتتغير نظم ويذهب حكام ويأتي آخرون، ويسقط أصدقاء قدامى ويأتي حلفاء جدد، فقد "أخطأت السياسة الأميركية على مدى ستين عاما في مساندة حكام طغاة في الشرق الأوسط" كما قال علنا الرئيس الأميركي بوش، وآن الأوان اذا لتصحيح الأخطاء وفق سياسة وأسلوب جماعة المحافظين الجدد المتطرفين والمتصهينين!
أخشى القول ان وقت وجدوى النصيحة لحكامنا وحكوماتنا الرشيدة قد فات، فقد أضاعوا الفرصة الحقيقية للاصلاح الديمقراطي الوطني الحقيقي، بالتهرب والتلكؤ والتشبث بالسلطة والثروة، وبإنكار مطالب الشعوب، حتى جاءت لحظة الحقيقة المرة، ليواجهوا "الحليف والصديق الأميركي" وقد انقلب عليهم وقرر الاطاحة بهم بنفسه بلا رحمة!
أخشى المجاهرة بأن الضعف المنفلت والارهاب المسلح، سيزداد من الآن فصاعدا يمهد المناخ الساخن للصيف اللاهب المقبل، ويحرث الارض بل يحرقها حتى يسهل على الجراحين الأميركيين والأوروبيين إجراء الجراحات الرئيسية في الجسد المريض، ليستأصلوا ما يريدون، ويبقوا فقط على ما ينفعهم ويخدم مصالحهم ويناسب مقاس أقدامهم!
أخشى ما هو أكثر وأخطر، لكني في النهاية لا أخشى توجيه النصيحة إلى كل القوى والتيارات السياسية الوطنية، التي انتفضت أخيرا، مطالبة بالاصلاح الديمقراطي الحقيقي، ورافعة شعارات نبيلة، ورافضة لكل صور الهيمنة الاميركية، من ان تقع في إغواء دعوات الاصلاح المفروض من الخارج، نكاية بمن يماطلون في الاصلاح من الداخل، فالنكاية أو الشماتة هنا لا تنفع ولا تصلح سلاحا للتغيير الذي نريده جميعا، وما نريده يجب أن ينبع من داخلنا نقيمه بعزم وطني خالص ولا تنازل أو استغلال!
أقول ذلك وأنا لا أقرأ الغيب، ولكني أقرأ التطورات، وأشم روائح الخطر المتفجر تحت أقدامنا وأكاد اختنق بلهيب صيف ساخن بات على الابواب يدق بعنف!
خير الكلام: يقول البردوني:
الصمت يسقط كالأحجار باردة
على الزوايا ولا يشعرن ما يقع
* مدير تحرير صحيفة "الأهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 957 - الثلثاء 19 أبريل 2005م الموافق 10 ربيع الاول 1426هـ