هناك كثير من الادعاءات ترددها إدارة البيت الأبيض لتبرير حروب جورج بوش الابن على المنطقة العربية - الإسلامية. ومن تلك الادعاءات قول الإدارة الأميركية إن المنطقة باتت مجبرة على تحقيق إصلاحات بعد ممانعة بذلتها الأنظمة طوال سنوات.
وفي ضوء هذا التفسير أخذت واشنطن تنسب كل ما يحصل في المنطقة من مبادرات تقودها المنظمات الأهلية أو تبادر الأنظمة إليها إلى تلك التحولات التي أنتجتها حروبها أو تهديداتها. فالديمقراطية مثلا بدأت برأي إدارة بوش بعد احتلال القوات الأميركية للعراق قبل أكثر من سنتين. فالديمقراطية وفق هذا الرأي الساذج لم تكن موجودة قبل هذا التاريخ. والإصلاح في مصر لم يكن مطروحا قبل الآن وبدأ الحديث عنه بعد تهديدات واشنطن للنظام هناك. كذلك الديمقراطية في لبنان كانت معتقلة وأطلق سراحها بعد صدور القرار الدولي .1559 وهكذا إلى آخر حلقة في سلسلة ادعاءات لا صلة لها بالواقع أو بالتاريخ السياسي للمنطقة.
الادعاءات الأميركية بحاجة إلى تدقيق وكذلك لابد من إعادة قراءة تعريف واشنطن في ظل إدارتها الحالية لكل تلك المصطلحات التي تطلقها بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والحرية والمرأة وغيرها.
هناك مشكلة مع تلك الادعاءات، مضافا إليها بعض المفاهيم المتصلة بالتاريخ السياسي للمنطقة. فالكلام عن الديمقراطية في المنطقة ليس جديدا، فهو يعود في بذوره الأولى إلى عشرات العقود من الزمن، وهناك كميات من الدراسات والكتب والمؤتمرات والبحوث التي تطرقت إلى هذه المسألة في مختلف المنابر والهيئات والأحزاب وسطرت مئات المقالات بشأنها. فالمسألة الديمقراطية وما يتعلق بها من رؤوس موضوعات تتصل بالمرأة والحرية والدستور والمساواة وحقوق الإنسان والتنمية والتوزيع العادل للثروة شكلت منذ أكثر من قرن ميادين معرفة صالت وجالت فيها الأقلام بمختلف الألوان. ولم يقتصر النقاش في هذه الموضوعات على حقول الفكر، بل ظهرت تجارب عملية في أكثر من بلد عربي ومسلم، ونشأت في ظل هذه الدول عشرات القبب من برلمانات ومجالس نيابية جرت تحتها الكثير من النقاشات والانتخابات. وشهدت في تلك الفترة عشرات الدول أنظمة احترمت الدستور وتداولت خلالها الأحزاب والهيئات السلطة من دون منازعات أو تشنجات.
كل هذه التجارب عرفتها المنطقة العربية - الإسلامية فكرا وممارسة ثم أطاحت بها سلسلة انقلابات عسكرية رعتها الولايات المتحدة عموما وفرنسا وبريطانيا أحيانا. بل إن واشنطن شجعت تلك الأنظمة الانقلابية ومولتها وسلحتها بكل أدوات القهر، بذريعة منع المعارضة "الوطنية أو القومية أو اليسارية آنذاك" من الوصول إلى السلطة.
إلى ذلك، أسهمت نكبة فلسطين ودعم الغرب لقيام كيان صهيوني على أرض عربية في تعزيز تسلط الأنظمة ونهوض دكتاتوريات بررت وجودها باسم حرب التحرير وأنفقت بذريعتها الثروات على الجيوش "التسلح" وأهملت التنمية، حتى لا يعلو أي صوت فوق صوت المعركة.
هذه السياسة الأميركية اعترف بسلبياتها بوش ولكنه لم يعتذر عنها، ووعد بأنه سيعمل على تغييرها بعد 60 سنة من الكوارث التي جلبها الغرب على المنطقة. وعلى رغم الاعتراف لم تتغير السياسة. فحتى الآن لاتزال واشنطن تدعم "إسرائيل" من دون شروط وتعطيها ما تريده من دون أن تطلب منها أن تقدم تنازلات التزمت بها المجموعة الدولية في قرارات صدرت عن مجلس الأمن. وحتى الآن أيضا لاتزال واشنطن تدعم الأنظمة التي تؤيد سياستها أو تمرر لها مشروعاتها وتغض الطرف عن تجاوزاتها، في وقت لاتزال تناوئ أنظمة تعارض سياستها.
واشنطن حتى الآن لا تعتمد سياسة سوية في علاقاتها. وهي تخالف الكثير مما تقوله سواء في دعمها المطلق لدولة "إسرائيل" التي ترفض الانصياع للقرارات الدولية، أو في دعمها لأنظمة توافق على سياستها. وهذه الازدواجية في المعايير تعتبر نقطة ضعف في السياسة الأميركية، لأنها تكشف عن نفاق في استراتيجيتها العامة، وفي الآن تفضح الكثير من أهدافها الحقيقية، أو تلك الادعاءات التي تربط الإصلاحات الجزئية في هذا البلد أو ذاك بتداعيات احتلالها للعراق.
هناك الكثير من الادعاءات الأميركية بشأن التحولات الجارية في المنطقة، إلا أن أساس الخلل فيها يتجاوز إطارها الفكري ليطال تلك الممارسة التي لم تغادر حتى الآن جوهر سياسة واشنطن، وتحديدا دعمها المطلق لـ "إسرائيل" والأنظمة المؤيدة لأنشطتها العسكرية والاقتصادية في المنطقة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 957 - الثلثاء 19 أبريل 2005م الموافق 10 ربيع الاول 1426هـ