شهد القرن التاسع عشر قيام مؤسسات سياسية فكرية قادها مفكرون، منهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وعبدالرحمن بن باديس. فالأفغاني ركز على أهمية الاعلام إذ انشأ صحيفتي "الاعتدال" و"العروة الوثقى" وأنشأ أيضا ما يقرب من 6 صحف. أما محمد عبده فقد قاد معركة ضارية لإصلاح نظام التعليم في الأزهر، وقال: "لقد مكثت 10 سنوات أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة بعض ما يطرح وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة"، "المصدر الأعمال الكاملة ج3". ونادى محمد عبده بالاصلاح الديني وتحرير العقل المسلم من أسر التقليد الأعمى وفي الوقت ذاته حارب ضد الانجليز حتى نفي إلى لبنان والكواكبي ألف كتابه الشهير "طبائع الاستبداد"... ما أريد قوله ان الاصلاح مسألة مهمة لأي مجتمع ولا يمكن ان يتم اصلاح سياسي من دون اصلاح ثقافي وكل ذلك يحتاج طبعا إلى وعي، لذلك عندما نقرأ أطروحات غاندي فانه ركز على ثلاثة عناصر مهمة هي: 1- الوعي، 2- التنسيق، 3- التضحية... لقد وضع غاندي عنصر الوعي في تحقيق الاصلاح وذلك لا يكون بلا ثقافة وعي. أحيانا نعرف ان هناك فقرا وهذه المعرفة لا تكفي... المسألة ليست أن نفهم الفقر وانما ان نعي الفقر... أي مدى خطورته... كيف نقضي عليه. كثيرا ما طرحت مشكلة فوضى الأجندة... غياب الأولويات... غياب المؤسسات ذات الاطياف المتنوعة.

ان المشكلة التي نعاني منها هي التصنيم وقد دخلنا في عصر الوثنيات السياسية، فالوزير يضع له تمثالا كي يعبد ويفرض مزاجيته على كل المؤسسة وإذا جلس أمام المنصة أو في مؤتمر يسطر أروع الصور المخملية عن الديمقراطية والتعددية واحترام الآخر.

هل يوجد عربي واحد لا يرفع شعار الديمقراطية؟ 50 عاما والنظام العربي يدبج افتتاحيات مؤتمراته باسم الديمقراطيات وتبدأ الاستعراضات اللغوية والبلاغية... حتى مؤسسات المجتمع المدني في حقول السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد... الخ. هل هنالك مؤسسة خالية من أمراض النظام العربي؟

ان صدام حسين إلى يومك هذا وهو في السجن مازال مصرا على انه قاد أفضل حزب ديمقراطي حاكم في العالم العربي. ان مشكلة الاعتراف بخطيئة الدكتاتورية متورط فيها العرب والمجتمعات الشرقية والأحزاب، لذلك من الصعب الاعتراف بوجودها. هل وجدتم في يوم من الأيام مثقفا أو مؤسسة أو وزيرا أو كاتبا أو نجما من نجوم الفن خرج على الناس وقال: أنا آسف أنا بشر قد أخطئ وأصيب وأنا أخطأت في هذه الوزارة وعرضت مصالح الدولة أو مصالح المواطنين إلى خطر؟ الوزارة تتحول إلى مزرعة خاصة والموظفون قطيع محاطون بالسياج لا أحد يتكلم، لا أحد يسمع، والويل لمن يفتح فاهه إلى الصحافة.

كلنا نشتم هتلر ولكن من منا لا يعيش هتلر في داخله... هتلر كان يقول عندما أسمع لفظة ثقافة أتحسس مسدسي. والمدير العام في المؤسسة والوزير في الوزارة ومدير مزرعة دواجن أو خرفان مجرد أن يسمع مجلس نواب أو صحافة أو نقابة يتحسس رؤوس الموظفين وهذه هي الثقافة التي نعيشها نريد من حولنا اما نعاجا والا الحجاج. أليس صحيحا ما قاله هشام شرابي في نظرته السيسيولوجية عن شيوع القمع في البيت العربي... الوزير يقمع الوكلاء... الوكلاء يقمعون الموظفين... المدير يقمع المدرسين، المدرسون يقمعون التلاميذ وهكذا حتى يتحول القمع إلى ثقافة. كم من مثقف وكاتب اليوم يمارسون اسلوب القمع تجاه الناس بتجريحهم... بدكتاتوريتهم. اذا، الدكتاتورية مرض كلنا نرفضه لكن ليس بالضرورة هو ليس موجودا في كرات دمنا الحمراء وما أتعس المثقف السادي الشوفيني عندما يلقي القمامة كل صباح في الحدائق العامة بدعوى التنظيف. لا يمكن لأحد أن يرقص ويصفق للتمثيليات "التافهة وللممثلين الخائبين". ان المشكلة ان المشانق المنصوبة للناس انتقلت من السجون إلى صفحات الصحف وتعسا لصحافيين ولمجتمع أصبحت "المشانق فيه أكثر من الحدائق"