العدد 955 - الأحد 17 أبريل 2005م الموافق 08 ربيع الاول 1426هـ

فوضى... وليست بناءة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعيدا عن التفسيرات الملتبسة لما يحصل في مدينة المدائن "سلمان باك" العراقية فإن تلك الحوادث، وبغض النظر عن التضخيم والافتعال، تعتبر كارثة في كل المعايير السياسية والاخلاقية والإنسانية. فالكارثة هي ان تتحول تلك الحوادث إلى قاعدة ترسم حدود العلاقات بين الجماعات العراقية وتصبح هي وسيلة لغايات غير شريفة تهدد وحدة بلاد الرافدين وتدفع الهيئات على اختلاف تكويناتها إلى اتخاذ خطوات دفاعية تمزق النسيج الاجتماعي وتفكك تلك الروابط التاريخية للدولة والمجتمع.

بعيدا عن كل التفصيلات فإن ما حصل ويحصل في المدائن يشير إلى بدايات سيئة خططت لها القوات الأميركية منذ بدء الحرب ووقوع الاحتلال. فالولايات المتحدة التي ساقت المنطقة إلى مواجهة قوضت في النهاية دولة العراق ونشرت الفوضى وزعزعت الاستقرار تتحمل مسئولية تاريخية لكل النتائج الكارثية والتداعيات السلبية التي اطلقت العنف وشجعت على الإرهاب وها هي اليوم تبدأ خطوة جديدة في زرع بذور الفتنة الأهلية بين الجماعات التي يتكون منها سكان العراق والمنطقة.

هذه السياسة التقويضية تطلق عليها المجموعات الأكاديمية في إدارة البيت الأبيض تسمية نظرية تدعى "الفوضى البناءة". فماذا تعني هذه الفكرة الغامضة؟

"الفوضى البناءة" تعني الكثير من الأمور ويرجح ان تميل في مجموعها العام إلى نشر فوضى من دون بناء. فالفكرة في اساسها نظرية وهي تعتمد على مجموعة معادلات وهمية لا صلة لها بالواقع ولا بالتاريخ ولا بالتطور. فهي تستظل سياسة بوش الهجومية لتبرير الفوضى امام الرأي العام الأميركي وتقديم الذرائع للناخب بوجود فوائد ايجابية من وراء اشاعة الفوضى في مجتمعات تتحكم بها أنظمة استبدادية.

النظرية إذا أكاديمية الطابع وضعت أصلا لتغطية النتائج السلبية التي قادت حروب بوش المنطقة إليها. وحتى تزين الفوضى بالايجابيات أخذت مراكز القرار الأكاديمية بتنظير تلك النتائج وتعطيها بعض المبررات الإنسانية. فالفوضى ضرورية برأي تلك المجموعات الأكاديمية لاحداث التغيير المطلوب ودفع المنطقة وجماعاتها للانتقال من حال الاستسلام لأنظمة الاستبداد إلى حال قبول أو تقبل الأنظمة الديمقراطية. وهذا الانتقال لا يتم بهدوء بل من خلال فوضى تقوض اشكال العلاقات القديمة وتعيد تأسيس العلاقات على قواعد جديدة أو حديثة.

"الفوضى البناءة" إذا تفترض سلسلة محطات متتالية للوصول إلى الهدف الأخير وهو نشر الديمقراطية في المنطقة. وتبدأ السلسلة بمحطة أولى وهي افتعال أزمة "مشكلة" تبرر التدخل الأميركي. بعدها تأتي ثانية وهي استخدام القوة العسكرية للضغط أو تقويض الدولة القائمة من خلال زعزعة استقرارها الأمني. بعدها تأتي ثالثة وهي الاحتلال المباشر أو استخدام قوة داخلية تكون جاهزة للانقضاض على النظام "الدولة" مستفيدة من الدعم الخارجي. بعدها تأتي محطة رابعة وهي الانهيار العام والتفكك وتضارب الجماعات وتلاشي تلك العلاقات السابقة التي استقر عليها المجتمع. وأخيرا تأتي محطة إعادة بناء ما تهدم من علاقات إنسانية واخلاقية وسياسية بين المجموعات الأهلية التي تتكون منها الدولة وتأليف منظومات جديدة تؤسس لعلاقات مختلفة تقوم على فكرة الديمقراطية وتداول السلطة.

إذا؛ الفوضى ضرورية وهي "شر لابد منه" لإعادة تأسيس "بناء" دولة مختلفة تعتمد مجموعة قيم اجتماعية "مستوردة" من الولايات المتحدة تتحول مع الأيام إلى نموذج خاص يحتذى من ابناء المنطقة والدول المجاورة.

هذا الملخص لنظرية "الفوضى البناءة" يثير الشفقة نظرا إلى ضحالة منطقه التاريخي والاجتماعي والسياسي. إلا أنه بالنسبة إلى واشنطن يعتبر حاجة أكاديمية لتبرير منطق الدفع باتجاه افتعال الازمات والحروب التي يخطط لها فريق عمل بوش في البيت الأبيض. وحتى يكون المنطق له ما يبرره لابد من خلق الذرائع المتهافتة لتفسير فوائد الفوضى وانتشار الإرهاب والفساد وفضائح التعذيب في سجن أبوغريب. فكل هذه السلبيات انتجت برأي فريق العمل في واشنطن ايجابية وهي: اجبار العراق عن طريق القوة العسكرية الخارجية دخول عصر الديمقراطية وبدء التعود على الانتخاب كوسيلة لاختيار القيادة السياسية.

إنه منطق مقلوب يعتمد نظرية "العنف قابلة التاريخ" ولكنه وبسبب تهافت ذرائعه، انتج ديمقراطية عراقية مقلوبة رأسها البرلمان وقاعدتها التفكك الأهلي من الفلوجة إلى المدائن

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 955 - الأحد 17 أبريل 2005م الموافق 08 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً