بعد مخاض طويل، وفترة حمل فاقت حدود الحمل الطبيعي ولد "البونس" في "غرفة عمليات" مجلس الوزراء. .. هذا المولود الذي لم تفلح كل جهود "الطلق الاصطناعي" التي قام بها "جراحو" النيابي، بعضهم بعلم ودراية، وبعضهم بجهل ليس يعرف له أول من آخر، والبعض الآخر بمزايدات لتحقيق مكاسب شخصية ولاسيما أن سنة 2006 باتت على الأبواب.
ومع ذلك جاء المولود الجديد وقد اعترى تركيبه الخلل البين، فهو في "شهادة الميلاد" مولود كغيره من المواليد، غير أنه "في الواقع" مولود يعاني من البله، وبطبيعة الحال لا يشار إلى البله أو الجنون أو أي نقص عضوي آخر في شهادة الميلاد التي تكتفي بتسجيل "تاريخ الولادة"... بيد أن الواقع يبقى أهم بكثير مما هو مدون في أوراق التاريخ... لذلك، كانت هذه الوقفة مع مولودنا الجديد.
أولا: بالعودة لما دار من سجال، وأخذ ورد، سواء في الصحافة أو في أروقة البرلمان أو مجلس الوزراء أو على صفحات المنتديات والمواقع الإلكترونية، نجد أن شرارة مقترح البونس تتمثل في ارتفاع إيرادات النفط عن التوقعات التي اشتملت عليها الموازنة التقديرية للدولة، وذلك بسبب ارتفاع سعر برميل النفط.
وانطلق المقترح من واقع أن النفط ملك لأبناء هذا البلد، لذلك فلهم كامل الحق في الاستفادة من هذا الارتفاع في عائداته، ولاسيما أن واقع الحال يعكس حالا من المعاناة الشديدة التي تعيشها شريحة لا يستهان بها من أبناء هذا البلد. غير أن بونس الوزراء هذا، خرج من خزائن الدولة ليستقر في جيوب شريحة محدودة من المواطنين، هم عمال القطاع العام، ليبرز بذلك عدد من الأسئلة المنطقية والمشروعة: لماذا القطاع العام فقط؟ هل النفط ملك لموظفي الحكومة؟ أليس موظفو القطاع الخاص أيضا مواطنين يحق لهم الاستفادة من ريع خيرات بلدهم؟ هل كدح موظفو القطاع العام لاستخراج هذا النفط، بينما وقف موظفو القطاع الخاص موقف المتفرج؟ وغير ذلك من الأسئلة المشروعة..
ثانيا: إذا كنا ممن يسلم بأن "النمو الحقيقي لاقتصاد البلد يكمن في القطاع الخاص وليس العام"، أفليس الأولى أن تكون عناصر نجاح هذا النمو موضع التقدير والالتفات من قبل الحكومة؟ أم أن عليهم الغرم والغنم لغيرهم؟ وأي نمو يمكن أن تتوقع الدولة من منتسبي هذا القطاع - أي القطاع الخاص - إذا كانت تقابلهم بهذا الإجحاف؟
ثالثا: إن مشكلة البطالة، ليست مشكلة واقعية فحسب، وإنما الجميع يعلم يقينا أنها كانت السبب الرئيسي في تفجر حوادث التسعينات التي وصلت بالبلاد إلى هذا الموضع المتقدم مقارنة بالموقع الذي كانت تقف عنده آنذاك وقبل ذاك.. أي أنه بات من الواضح لمن كان يعتبر الحديث عن تبعات سياسية واقتصادية واجتماعية لمشكلة البطالة حديثا أكاديميا أو تهويليا أو غير ذلك من الصفات، أن اعتقاده ليس في مكانه وأن هذا الحديث هو حديث مبني ومتأسس على أساس واقعي مسلم به وله، لذلك كان لزاما أن توجد الحكومة الحلول الجذرية لهذا السرطان الذي إن لم يعالج فسيتنامى ويتضاعف.
وقد بدأت الحكومة فعلا في هذا الاتجاه، وطرحت الحلول التي ارتأتها مناسبة للتعامل مع هذه المشكلة. بعض هذه الحلول كان جذريا فعلا، والبعض الآخر كان جيدا إلى حد ما، والبعض الثالث كان مؤقتا ضروريا، وجزء أخير لم يكن سوى حلول ترقيعية ليست ذات جدوى حقيقية. بيد أن جميع هذه الحلول، جذريها وترقيعيها كانت تصب في مصب واحد هو "تشجيع المواطنين على الانخراط في العمل في مؤسسات القطاع الخاص باعتباره موضع النمو الحقيقي والمجدي"، وهو أمر لا أجد نفسي مختلفا معه بل مؤيدا كبيرا له مع الأخذ في الاعتبار تحسين أوضاع الأجور وظروف وبيئات العمل وانتهاج منهجيات تطور واضحة تكفل استثمار الموارد البشرية الوطنية استثمارا صحيحا، وأشدد على كلمة "استثمار" في هذا السياق بكل ما لهذه الكلمة من أبعاد. ولكن السؤال: هل صرف المكافآت لموظفي القطاع العام من دون موظفي القطاع الخاص يعمل في هذا الاتجاه؟ هل مثل هذا الإجراء يشجع الباحث عن عمل حقا على الانخراط في مؤسسات القطاع الخاص؟ ألا يعتبر هذا الإجراء مناقضا لما تبذله الحكومة من جهود للتقليص من حجم الهوة أو الفوارق في الامتيازات بين صندوقي التقاعد والتأمينات الاجتماعية؟ وأخيرا، ألن يسهم هذا الإجراء في زيادة تشبث بعض الباحثين عن عمل على الأقل في إصرارهم على العمل في "الحكومة" وهجر القطاع الخاص؟
رابعا: يقول بعض المدافعين عن هذا التوجه الرسمي الأخير إن الحكومة لا تمتلك آلية الفرض على مؤسسات القطاع الخاص لدفع البونس؟ وهو في رأيي ليس أكثر من تهريج أو في أحسن الأحوال ليس أكثر من دفاع عن غير قناعة... فمن قال إن مؤسسات القطاع الخاص هي من يجب أن يدفع هذه المكافآة؟! نعم، مؤسسات القطاع الخاص مسئولة عن صرف البونس والمكافآت التي تقررها هي لموظفيها نتيجة ما حققته بفضل جهودهم من أرباح، تماما كما هي الحال بالنسبة إلى الحكومة.
فالحكومة مسئولة مسئولية كاملة عن صرف المكافآت التي تقررها هي نتيجة ما حققته الدولة من أرباح أو إيرادات... ولكن الفارق هنا هو أننا عندما نتحدث عن مؤسسة فإننا نتحدث عن "موظفيها"، وعندما نتحدث عن دولة فإننا نتحدث عن "مواطنيها" بغض النظر عما إذا كان هذا المواطن عاملا في القطاع الخاص أو في القطاع العام. ولأن الحديث هنا مرتبط بكلمتين أساسيتين هما "المواطن" و"النفط" فإن الأمر يجب أن يمتد ليشمل حتى ذلك المواطن العاطل عن العمل، وليس العامل فقط، وإنما يمكن حصر العملية في العاملين في القطاعين من دون العاطلين فقط إذا كان الأمر مرتبطا بتحقيق إيرادات أو أرباح نتيجة أداء محدد في العمل سواء في القطاع العام أو الخاص، غير أن الحديث هنا ليس مرتبطا بالعمل والأداء وإنما كما أشرنا آنفا بالمواطنة.
هذه وقفات قصيرة وسريعة مع مولودنا الجديد نأمل من خلالها أن يبادر جراحو الدولة هذه المرة وليس جراحو النيابي، إلى اجراء بعض العمليات العلاجية لذلك المولود، لعلها تنفع في رفع حال البله والجنون التي اعترته أثناء الولادة، فيكون مولودا سليما ومعافى يمكن أن يسهم في النهوض بمجتمعه وبلده من خلال تكريسه لحس المواطنة الحقيقية في نفوس كل المحيطين به عمالا في القطاع العام كانوا أو في القطاع الخاص أو باحثين عن عمل.
* كاتب بحرين
العدد 954 - السبت 16 أبريل 2005م الموافق 07 ربيع الاول 1426هـ