يصف تقرير التنمية العربية الحال السياسية العربية فيركز على جذور الأزمة الحالية بإرجاعها إلى انهيار التجارب العربية الليبرالية التي تشكلت كحركات فكرية وسياسية وإصلاحية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والتي كانت قد ولدت أحزابا جماهيرية وحركات استقلالية وأنظمة برلمانية في دول مثل سورية والعراق ومصر والمغرب والسودان وغيرها، ولكن هذه التيارات تعرضت لانتكاسات متلاحقة يرجعها التقرير إلى التناقضات الداخلية في المجتمع والأوضاع الإقليمية المضطربة والتحديات الداخلية والخارجية إضافة إلى التدخلات الأجنبية. ونتج عن هذه التطورات تعرض "المجتمع السياسي" العربي لنكسة كبرى كان من مظاهرها تفكك أو تشرذم الأحزاب الجماهيرية ذات التوجه الليبرالي، مع إخفاق حكوماتها في مواجهات التحديات التي واجهت المجتمعات العربية مثل التنمية والتحديث والاستقلال. وتطور الأمر بحيث تحولت الحكومات الراديكالية مع مرور الزمن إلى حكومات محافظة، والأحزاب الثورية إلى أحزاب حاكمة أو مهيمنة. ويؤكد التقرير أن مسيرة التحديث في البلدان العربية قد أسفرت عن إنجازات ملحوظة، وخصوصا في مجالات مكافحة المرض وفي إقامة البنى الأساسية والنشر الكمي للتعليم. ومع ذلك لم تف تلك الدول بطموحات الشعب العربي في النماء والأمن والتحرر بمعايير القرن الحادي والعشرين. وكثيرا ما قيل إن على الحرية أن تنتظر توافر "الخبز" بمعنى إشباع الحاجات الأساسية للبشر، ولكن معادلة "الخبز قبل الحرية" كادت أن تنتهي إلى افتقاد عامة العرب إلى الخبز والحرية كليهما.
ويرى التقرير أن الأمة العربية تعيش حال ترقب ومخاض بين نظامين تاريخيين: الأول يعاني أزمة حادة بينما الثاني لم يولد بعد. ويسود نتيجة ذلك ترقب رهيب بين العرب ينفتح على بدائل مستقبلية شتى، بعضها كارثي وبعضها الآخر واعد. ويتحول التقرير إلى مناقشة بدائل ثلاثة لمستقبل الحرية والحكم في الوطن العربي؛ أولها واجب تفاديه وثانيها يفضله حتما وثالثها يبدو واقعيا، وقد يكون المفضل إن أحسنت إدارته من قبل القوى المجتمعية العربية. ويطلق التقرير على البديل الأول مسار "الخراب الآتي" فاستمرار الأوضاع الراهنة من عجز تنموي يلازمه قهر في الداخل واستباحة في الخارج، يمكن أن يفضي إلى تعميق الصراع المجتمعي في البلدان العربية. فنتيجة اختلال توزيع القوة، بوجهيها، السلطة والثروة، يقاسي جل العرب مظالم جمة قد تتحول نتيجة التضييق على الحرية، إلى غضب ويأس قد يلجئان بعضهم لأشكال من الاحتجاج العنيف... ولا يفلح في مكافحة مثل هذا الصنف من الاحتجاج العنيف مجرد وصم مرتكبيه بالإرهاب والزيادة في تشديد القبضة الأمنية.
أما المسار الثاني فيطلق التقرير عليه مسار "الازدهار الإنساني" وهو تبني جميع الشرائح المناصرة للإصلاح في عموم المجتمع العربي في السلطة وخارجها على مختلف الجبهات بالسبل الديمقراطية كافة بهدف تعزيز الحريات والحقوق تمهيدا لتحقيق التداول السلمي العميق للسلطة من خلال عملية تفاوض تاريخية. والنتيجة المتوخاة هي إعادة توزيع القوة في المجتمعات العربية بما يوصلها لمستحقيها من السواد الأعظم من الناس.
أما المسار الثالث فهو المسار الوسط بمعنى الإصلاح المدفوع من الخارج وهو من المنظور الواقعي الذي سيتبلور عنه المستقبل العربي ويقع ما بين المسارين السابقين. ويقصد التقرير ما يتمخض عنه مشروع "الشرق الأوسط الأوسع وشمال إفريقيا" الذي يمكن أن يدفع موجة من الإصلاح الداخلي في البلدان العربية مدفوعة بضغط قوى خارجية. والظن أن الدول العربية، بسبب تكوينها الراهن وقابليتها للتأثر بالضغوط الخارجية، قد تستجيب لهذه الضغوط الإصلاحية المملاة، مع الحرص على ألا تصل هذه الإصلاحات إلى منتهى الإصلاح المجتمعي وخصوصا السياسي وعلى وجه الخصوص توزيع القوة وكيفية ممارستها، الذي هو في جوهره بديل "الازدهار الإنساني".
ويعترف التقرير بأن هذا البديل "الملتبس" قد لا يرقى لبديل "الازدهار الإنساني" في جانبين جوهريين للحرية. الأول هو التغاضي عن قضايا العرب الأساسية في التحرر، إذ قد ينطوي على التخضع للضغط من الخارج وفق رؤى قوى أجنبية لا تتقاطع بالضرورة مع الحرية والحكم الصالح بالمفهوم المتبنى في التقرير وخصوصا فيما يتعلق بالتحرر والاستقلال الوطني.
والجانب الثاني والأعم هو فقدان حيوية الإصلاح الداخلي في البلدان العربية واستمرار التلقي لمعالم مصير البلدان العربية من خارجه. ومن الحق الإقرار بأن مشروع الإصلاح العربي قد بدأ منذ قرنين من الزمان واكتسب زخما عبر معارك التحرر الوطني، ويتواصل بغض النظر عن القوى المهيمنة على المسيرة العربية في الداخل والخارج والتي كثيرا ما أعاقت تلك المسيرة. غير أن الحرص على مشروع النهضة العربي يقتضي أيضا الاعتراف بأن مسيرة الإصلاح ما فتئت بعيدة عن مقاصد الشعب العربي في الحرية والكرامة. إضافة إلى ذلك، تنشط في العالم منظمات غير حكومية تستطيع أن تقدم عونا كبيرا لقوى الإصلاح في البلدان العربية.
إن التعاون مع الخارج سيكون مجديا إذا ما احترمت جميع الأطراف مبادئ أساسية أهمها الالتزام بنتائج تعبير الإرادة الشعبية عن نفسها من خلال نسق حكم صالح في مناخ الحرية فالإرادة الشعبية الحرة، لا مصالح القوى الخارجية أو تصوراتها بشأن المنطقة العربية يجب أن تكون هي الفيصل في تعيين مستقبل الشعوب العربية. ويختتم التقرير بهذه العبارة "الأمل ألا تتأخر الأمة العربية مرة ثانية عن الإمساك بالمسار التاريخي المؤدي إلى الموقع الذي يليق بها في عالم جديد شجاع ونبيل تسهم في إقامته وتنعم بالانتماء إليه".
* كاتبة وباحثة أكاديمية بحرينية
العدد 953 - الجمعة 15 أبريل 2005م الموافق 06 ربيع الاول 1426هـ