جرى على الساحة البحرينية حديثا تراشق سياسي وإعلامي عن المواطنة جر إلى فزعات هنا وفزعات هناك. فالبعض يشكك في وطنية البعض ويرد هذا البعض أن وطنيته فوق الشبهات، وشهدت الدوارات حملة منسقة لوضع شعار "البحرين أولا"، مع علم البحرين، على غرار الأردن أولا، وكلنا يعرف خلفيات الموضوع، فهل أضحت البديهيات موضع سؤال؟ يبدو هكذا... ولهذا لا بأس في الحديث عن البديهيات.
المواطنة بما فيها طبعا المواطنة البحرينية من الناحية القانونية هي عقد يجمع عليه أهل بلد ما، وتترتب عليه حقوق وواجبات أفراد هذا المجتمع سواء تجاه بعضهم بعضا أو تجاه الدولة. ومن ضمن هذه الحقوق ما يتضمنه الدستور أو ما يتوافق عليه المجتمع حتى في غياب الدستور "المملكة المتحدة مثالا"، وإذا راجعنا دستور مملكة البحرين فإنه يتضمن في باب الحقوق والواجبات ذلك بالتفصيل. وفي الوقت الذي قد لا تقوم الدولة بأداء بعض واجباتها تجاه مواطنيها أو تمارس التمييز في تعاملها معهم فإن ذلك ليس مدعاة للتبرؤ من المواطنة بل يجب الإصرار عليها لأن البديل هو الولاء لكيان آخر، ما يوقع الشخص أو المجموعة في باب الخيانة العظمى للوطن أولا، وحتى لو أسقطت الدولة مواطنة أحد مواطنيها تعسفيا، فإن ذلك لا يسقط حقوقه كمواطن. وكما نعرف فإن دولة البحرين أسقطت خلال المرحلة السوداء جنسية مواطنين شرفاء، ولكنهم استعادوا حقهم في المواطنة في مرحلة الإصلاح.
إن المواطنة لا تلغي التعددية العرقية أو الدينية أو المذهبية أو اللغوية وغيرها، فهذه من مكونات جميع الأوطان تقريبا. وهي مصدر ثراء لنا في البحرين إذا عرفنا كيف نحول هذا التعدد إلى تكامل وليس تنافرا. وواجب الدولة هو تشجيع الاندماج ما بين مواطنيها وليس استنفار العصبيات القديمة والانتماءات القديمة. كما أن دور القوى والنخب السياسية والثقافية أن تعمل على هذا الاندماج حتى لو تعرضت لعسف الدولة وتمييزها، فالوطن فوق الجميع.
من ناحية أخرى فإن الولاء للوطن يختلف عن الموقف تجاه النظام السياسي والقيادة السياسية والحكومة وسياساتها. هناك قبول بالنظام السياسي وهو ما هو قائم في البحرين، وقد استفتي شعب البحرين مرتين، الأولى من خلال تقصي بعثة الأمم المتحدة في مطلع 1970 والثانية في فبراير/ شباط 2001 في الاستفتاء على الميثاق، وأكد شعب البحرين تمسكه بالنظام السياسي مع تطويره سواء في المرة الأولى بجعله دستوريا، أو في المرة الثانية بجعله ملكية دستورية ولكن ليس هناك ما يدعى بالولاء للنظام السياسي كشرط للمواطنة، فالنظام السياسي في حال صيرورة وتبدل، أما الوطن فهو أزلي. كذلك الحال بالنسبة إلى القيادات السياسية والحكومات، فقد يكون هناك خلاف مع القيادة السياسية "مع تحفظنا على تعبير القيادة السياسية، فهذا التعبير ليس له ذكر في الدستور"، فقد تختلف قوى أو مجموعات من المواطنين مع قيادتها السياسية أو مع حكومتها أو برلمانها، لكن ذلك لا يخدش مواطنتها أو يشكك في ولائها للوطن.
أما الوجه الآخر القانوني للمواطنة فهو الشعور الوجداني أيضا. أتذكر هنا مشهدا من فيلم "الحب المغتصب" لبرتولوتشي، والذي صور في سهل توسكاني الجميل في إيطاليا. حين يخاطب الرسام الإنجليزي زوجته في حنين لبلده إنجلترا "لقد اشتقت إلى الجو المعتم" نعم إنه معتم ولكنه في الوجدان. إن ما يربط المواطن بوطنه هو هذا الشعور الوجداني بالانتماء بغض النظر عن جمال طبيعته أو قسوتها، وبغض النظر عن فقر وطنه أو غناه بغض النظر عن ظلم الأهل أو عدلهم، إنه انتماء إلى الأرض والوطن والأهل والأشياء الصغيرة والكبيرة، المفرحة أو المنغصة.
طبعا، نستطيع تقوية هذا الشعور أو إضعافه. نستطيع تقوية الشعور بالانتماء بإشاعة المساواة، وإحقاق الحقوق، وردع المعتدين على حقوق الوطن وثروات البلاد، وجعل التجنيس شرفا و رغبة في خدمة هذا الوطن وليس انتهازية لتحقيق مكاسب على حسابه. من المهم ألا يشعر المواطن أنه غريب في وطنه، بإنكار حقوقه أو التمييز ضده، أو تهميشه.
لا يمكن تعزيز المواطنة والانتماء إلى الوطن بالشعارات الجوفاء، أو اختزال الوطن بأشخاص، ولا يمكن بعث الحماس للمواطنة باجترار أهازيج الحماسة القديمة، أو بالفزعات الفئوية، بل يمكن تعزيز المواطنة والانتماء إلى الوطن ببناء الدولة العادلة، إذ يسهم كل فرد في بنائها ويشعر المواطن أن هذه الدولة هي ملجأه لنيل حقوقه أو دفع الظلامات عنه وليس عشيرته أو طائفته.
فليفتح ملف المواطنة والوطن لنعرف من يسيئ إلى المواطنة والوطن، ومن هو الذي يسهم في تعزيز المواطنة والوطن، ولكن من منطلق الحرص على الوطن وليس التهيج والمصالح الضيقة.
* كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 953 - الجمعة 15 أبريل 2005م الموافق 06 ربيع الاول 1426هـ