كان ابنها انتهى من قراءة كتاب. .. وبدأ في قراءة كتاب آخر... وكانت أمامه كتب أخرى يرغب في قراءتها.
وكان ابنها يتحدث معها عن مدى حبه للمعرفة وسعادته عندما يكون لديه كتاب ممتع فكريا... كانت أمه تصغي إليه وتتأمل وجهه الوسيم وعقله الذي نضج قبل أوانه بسبب حبه للثقافة... إذ كان يتكلم كشاب في العشرين على رغم أنه لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره... أخبرها عن عدم شعوره بالملل وحده... لأن لديه صديقا دائما هو كتابه... وأنه عندما يمل الضجيج يدخل غرفته وينسجم مع كتابه متمتعا بوقته... وكانت أمه تصغي إليه... أثناء حديث ونقاش بينهما تعودا عليه بسبب حبهما المشترك للقراءة يمضي لمدة ساعة أحيانا.
والتفتت الأم حولها في مجتمعها العربي فلم تجد إلا القليل جدا من الشباب والكبار من يهتم بالقراءة ويعتبرها وجبة كالطعام يمارسها يوميا مثل الشعوب القارئة المثقفة في عالمنا اليوم... وسألت نفسها: لماذا نحن هكذا؟ لماذا لا يقرأ الآباء لكي يقرأ الأبناء... هل هي مناهجنا التعليمية التي تقوم على الحفظ لا التفكير والابداع... هل هي القنوات الفضائية المنهالة علينا بمناظرها الخليعة التي تحول فيها الغناء إلى رقص وتلو وإغراء؟
قد لا ينجذب الأبناء لهذه القنوات كثيرا لو وجدوا آباء في البيت يهتمون بتوجيه ميول أبنائهم إلى القراءة أو هوايات مثمرة... لو أعطوا أبناءهم بعض الوقت ليصبحوا أصدقاء لهم يتحدثون بما في نفوسهم وما يقلقهم وما يفرحهم وما يحزنهم... لكن للأسف تجد هذه الأم أن هذا النوع من الآباء أصبح عملة نادرة... والأبناء الناضجون والواعون لمخاطر الحياة العصرية قليلون... لأنهم لا يجدون آباء يتحدثون إليهم ويشرحون لهم ما استعصى عليهم فهمه فيتجهون إلى أصدقائهم... وهنا تبدأ قصص الانحراف الأخلاقي إذا توافر أصحاب السوء من أصدقاء لأبناء غير واعين لا يجدون من يمنحهم المعلومات التي يريدونها بطريقة صحيحة.
وسألت هذه الأم نفسها وهي تلاحظ أن عقل ابنها نضج وتعمق في التفكير في جوانب الحياة... ترى هل أخطأت عندما شجعته على القراءة. وهل هي السبب في شعوره بالغربة في مجتمعه... لأنه لا يجد من يهتم بالموضوعات التي يقرأها ولا يفكر بمستوى نضجه... ما يوهمه أحيانا أنه لا يعرف الحياة بينما هم يعرفونها من واقع التجارب أكثر منه... ونسي أنه لو خاض الحياة العملية بتصميم جاد فإنه سيكون أكثر قدرة على النجاح منهم في عصر المعلومات والتقنية العلمية.
هي نفسها تعاني من هذه الغربة في مجتمعها البحريني... لأنها أحبت القراءة منذ أن كانت في الثالثة عشرة من عمرها وامتدت جذور هذا الحب حتى أصبح الكتاب جزءا من نشاط يومي تمارسه في حياتها... بينما غالبية الناس حولها لا تقرأ وإنما تشاهد القنوات الفضائية أو مشغولة بأحاديث تافهة في "الانترنت"... أو تهتم بشراء أمور استهلاكية يبالغون في أهميتها والتكلف في ممارسة حياتهم اليومية وفي حفلاتهم وشراء سياراتهم وبناء بيوتهم بشكل لا يتناسب مع قدراتهم المادية... فتتراكم الديون عليهم... ويدخل التوتر والارهاق النفسي إلى علاقاتهم... ويهرب الحب والانسجام وراحة البال بين الأزواج والأبناء من الشباك... وتنمو المشكلات وينتهي بعضها بالطلاق وتشتت الأبناء... وهكذا تدور هذه العجلة السلبية التي تدل على الجهل الثقافي لا التعليمي... بينما يهملون غذاء عقولهم وأرواحهم... وهي الجوانب الحقيقية التي تحركهم وتنمي وتطور حياتهم سواء كانوا في الدنيا أو بعد رحيلهم إلى عالم الروح الأثيري... والعقل والنفس وتطورهما وحكمتهما وسموهما هما اللذان يحكمان تمتع هذه الأرواح في حياتها الأثيرية الأخرى الدائمة إلى الأبد.
قال لي أحد الذين لا يقرأون وهو يرى الكتاب في يدي:
"هل مازلت تقرئين الكتب؟".
أجبته طبعا... هي جزء ضروري في حياتي اليومية... ألا تقرأ أنت؟
رد علي ساخرا متباهيا بجهله أقرأ! من يجد الآن الوقت للقراءة.
عادت تسأل نفسها بمرارة... كيف يمكن أن نكون أمة متحضرة... ونحن أمة لا تقرأ.. على رغم أن ديننا بدأ وحيه على رسوله الكريم بآية "اقرأ باسم ربك الذي خلق" "العلق: 1" لكننا لم نتمسك إلا بقشور الدين وتركنا جوهره العظيم بتشجيعه للعلم والمعرفة وجعلهما أساسا لفهم الدين الإسلامي ومعانيه وأهدافه النبيلة... أصبح الناس حتى المتعلمون أكاديميا منهم جهلاء ثقافيا يلهثون وراء متعهم المادية والمال الذي يوفرها لهم حتى لو غطت الديون رؤوسهم... ونسوا راحة البال مع الثقافة الفكرية والعطاء والحب للوطن وللناس من خلال فعل الخير للآخرين... وهكذا سنظل أمة متخلفة إلى أن ندرك جوهر الحضارة الحقيقية وهو الاهتمام بعقولنا وأجسادنا وأرواحنا وتغذيتها تغذية سليمة... ليحدث التوازن الذي دعا إليه الإسلام وافتقدته الحضارة الغربية اليوم.
* كاتبة بحرينية
إقرأ أيضا لـ "سلوى المؤيد"العدد 953 - الجمعة 15 أبريل 2005م الموافق 06 ربيع الاول 1426هـ