من جديد عادت الاستشارات في لبنان لتكليف رئيس لتأليف حكومة بعد اعتذار عمر كرامي للمرة الثانية. إلا أن المشكلة ليست في هذا الإطار أو على الأقل لا تنحصر في توزيع المقاعد واختيار الأسماء. المشكلة هي في ضعف الرؤية المشتركة وعدم الاتفاق على قراءة موحدة لبرنامج الاستحقاقات وأسلوب التعاطي مع الأزمات الداخلية وطريقة التعامل مع الضغوط الخارجية. فالمعارضة والموالاة لا تملكان ذاك التصور المطلوب لمعالجة مختلف المشكلات بعد إنهاء دمشق خطة الانسحاب العسكري.
بعد أقل من أسبوعين سيدخل لبنان مرحلة ما بعد الانسحاب السوري، وهي مرحلة جديدة بغض النظر عن النتائج السياسية المترتبة على ذاك الحدث. فهذا البلد تعود منذ العام 1976 الاتكال على دمشق في التشاور واتخاذ القرارات في مختلف المجالات. فالوجود العسكري ولد سلسلة تأثيرات سياسية عدلت الكثير من التوازنات المحلية وأنتجت مراكز قوى لعبت دورها في إعادة ترتيب العلاقات الداخلية. فغابت وجوه عن المسرح السياسي وبرزت وجوه واستمرت حاضرة حتى اللحظات الأخيرة.
الآن ستعود الأمور إلى نصابها ولكن بتعديلات نسبية ومن دون الارتداد إلى ما كان عليه الوضع قبل 30 سنة. فلبنان تغير بطبيعة الحال وما حصل طوال تلك الفترة لم يكن كله مفتعلا. فهناك قوى فعلية وفاعلة تحركت واستفادت من الوضع المختلف. ومثل هذه القوى يصعب تصور غيابها لأنها حاضرة بقوتها الذاتية وبما تمثله من خصوصية لا يمكن أن يقوم لبنان من دون مشاركتها في إعادة إنتاج دولته الجديدة. وهناك قوى مفتعلة وهي أشبه بالطفيليات التي انتعشت وظهرت على الشاشة لأنها نجحت في ترتيب علاقات خاصة مع نظام الأجهزة. ويرجح أن تغيب مثل هذه القوى عن الساحة بل ان غيابها يشكل ضرورة لبنانية لتحسين العلاقات مع سورية. فهذه القوى الهامشية أسهمت في إلحاق الضرر بمصالح دمشق وعطلت الكثير من العلاقات الصحيحة وافتعلت سياسات غوغائية شوشت الرؤية وأربكت خيارات سورية في لبنان. فمثل هذه الطفيليات استفادت من الوجود السوري وأضرت كذلك بمصالح دمشق وعطلت عليها أحيانا القراءة الصحيحة لموازين القوى المحلية وأحجامها ومواقعها وأدوارها، لذلك يرجح أن تسقط في الفترة المقبلة.
إبعاد الطفيليات عن المسرح السياسي اللبناني بعد الانسحاب العسكري النهائي ربما يساعد على توضيح الرؤية ويكشف الخلل الذي اصاب تلك العلاقات الجغرافية والتاريخية والثقافية والسياسية... وهي علاقات متينة وعميقة وبعيدة وتتجاوز كثيرا تلك الإفرازات الايديولوجية والقنوات الحزبية. فالعلاقات في عصرنا تقوم على المصالح والمنافع والتبادل وتتعدى في جوهرها العام تلك اللغة الجوفاء التي تعتمد مفردات جاهزة وفقرات مبرمجة "مسجلة" يعاد تفريغها في كل محطة سياسية.
العلاقات اللبنانية - السورية بحاجة إلى تفكير في المصالح وهي في النهاية تتعدى كثيرا مصالح طفيليات سياسية أحبطت خلال 30 سنة إمكانات تطوير تلك الثنائية الجغرافية - التاريخية إلى مستوى أرقى من التواصل والتنسيق.
الآن وبسبب دور تلك الطفيليات التي احترفت الكلام المنمق وامتهنت الألفاظ الجوفاء، ضاعت على بيروت ودمشق فرصة زمنية امتدت قرابة 30 سنة، كان بالإمكان الاستفادة منها لإنتاج صيغة متقدمة للعلاقات الثنائية العربية.
الآن وبعد خسارة 30 سنة من العلاقات وفشل الأطراف المعنية في توظيف تلك الفرصة التاريخية يعود لبنان من جديد إلى عاداته القديمة. إلا أن الوقت لا يلعب في مصلحة البلد وخصوصا أنه مقبل على استحقاقات خطيرة تتطلب من المعارضة والموالاة توضيح رؤية مشتركة لبناء دولة جديدة تستطيع أن تتعامل بواقعية مع مستجدات خارجية وداخلية تتجاوز كثيرا الحصص الطائفية وتقاسم المغانم وتوزيع المقاعد... ومصالح الطفيليا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 953 - الجمعة 15 أبريل 2005م الموافق 06 ربيع الاول 1426هـ