العدد 951 - الأربعاء 13 أبريل 2005م الموافق 04 ربيع الاول 1426هـ

الحديث عن الديمقراطية... هل هو "كذبة عربية" كبرى ؟!

أحمد البوسطة comments [at] alwasatnews.com

يقول جاسم المطير في جزئية من مذكراته عن سجن "نقرة السلمان"، المعتقل العراقي البغيض الذي أمسى رمزا للاضطهاد والقمع والظلم والاستبداد: أكذب حديث، هذه الأيام، هو الحديث عن الديمقراطية. لا توجد أحاديث أو كتابات صحافية من دون ذكر كلمة "الديمقراطية". صارت الديمقراطية مثل الطماطة موجودة في كل مرق أو مثل الملح موجودا في كل طعام.

بين كل والد وولده في الاتحاد السوفياتي يجري حديث عن الديمقراطية. "كلهم، حتى العشاق يتطلعون إلى شجرة في خيالهم اسمها الحرية والديمقراطية عسى أن يروا ورقة من أوراقها أو ثمرة من ثمراتها". هذا ما أخبرني به السجين المقبل إلينا رأسا من مطار موسكو نزولا إلى مطار بغداد إذ ألقي القبض عليه، وصولا إلى نقرة السلمان، السجين عبداللطيف عباس.

ويضيف المطير: "في الراديو نسمع يوميا زعيق جمال عبدالناصر عن الديمقراطية والحرية وأحيانا يتحدث قادة مصريون آخرون عن الديمقراطية الاشتراكية. صار جماعة الاتحاد الاشتراكي في مصر يتحدثون عن الديمقراطية، ليس في غرف مغلقة كما يفعل الأزواج السوفيات أو العشاق الكوبيون، بل في القاعات المفتوحة والساحات العامة وفي استوديوهات التلفزيون والإذاعة. لكننا نسمع بذات الوقت، أن خيال القادة المصريين أنفسهم يبتدع أساليب كثيرة لتنمية أعداد المعذبين المصريين من الإخوان المسلمين والشيوعيين في السجون والمعتقلات المصرية الرهيبة، وهم أنفسهم يفكرون في خطط القضاء على الشيوعية باسم الديمقراطية المسكينة نفسها".

ويواصل المطير قوله: "حتى هذا العسكري الأمي المدعو عبدالسلام عارف صار حديثه كثيرا عن الديمقراطية التي لا يفقه عنها شيئا غير اسمها، وهو بنفسه يجيز لنفسه التحدث عنها، بينما سجونه تطبق بظلامها على آلاف السجناء السياسيين من دعاة الديمقراطية"!

واضح أن الكاتب جاسم المطير يتحدث عن حقبة تاريخية تجاوزها الزمن، لكن الزمن العربي لم يتجاوزها بعد: فالاتحاد السوفياتي انتقل بنظامه الشمولي بمحاسنه وسيئاته إلى رحمة الخالق عز وجل وتنتظره "المحاسبة" على "أقواله وأفعاله" يوم الحساب؛ وكذا الحال بالنسبة إلى الزعيم العربي جمال عبدالناصر وقادة الاتحاد الاشتراكي، والمسألتان "السوفيات وناصر" موصولتان بالعسكري الأمي عبدالسلام عارف وحكمه للعراق، غير أن الحديث عن الديمقراطية في هذه الحقبة العالمية الجديدة، وخصوصا عند الأنظمة العربية المرعوبة من التغيرات السريعة، مازالت الديمقراطية "أكذب حديث عصري عندها"، حتى أن كاتبا يابانيا عاش مع العرب ومفكريهم ونخبهم أكثر من ثلاثة عقود تنبه إلى هذه الازدواجية في صفوف الأنظمة والمثقفين وبحسب أنفاسهم ومزايداتهم في الحديث عن الديمقراطية والإصلاح.

في الحقيقة، ما يحدث في الواقع العربي أغرب من أن يستوعبه العقل، ويصعب على أية لغة سياسية أن تعبر عنه، وعلى رغم أن رياح التغيير العاتية تهب علينا من كل الجهات، فإننا نمارس بفجاجة "هواية كريهة" تضع الناس على مسافة كبيرة بين العقل والجنون، وكأن كل الأنظمة ديمقراطية؛ وكلها غير ديمقراطية في آن؛ وكذا الحال بالنسبة إلى النخب: كلها تسعى إلى الديمقراطية أو كلها مكتفية بالواقع "الديمقراطي" الذي تعيشه، ولم تكتف بذلك، بل "تردح" في مدحه وتجد كاتبا أو شاعرا مولعا بشعر المديح مستعدا لأن يكتب عشر قصائد في يوم واحد لعشرة زعماء وضيوفهم حتى لو كان بينهم شارون ليفاخر بالشجاعة والكرم العربيين وخصال الحكام العشرة المختلفين "الديمقراطيين جدا، والرجعيين جدا في آن" ويرجع ببساطة هذه الخصال للتاريخ ومزايا الزعامة العربية "الأصيلة" على مر العصور بغض النظر عن وحشية حاكم من ورعه، وديمقراطيته عن ديكتاتوريته. هل رأيتم أحلى من ذلك؟!.

هنا أذكركم بـ "يافطة" للشاعر "المشاغب" أحمد مطر يقول فيها: وقف القط

على الحائط

مفتول الشنب

قال للفأرة:

أجدادي أسود!

قالت الفأرة:

هل أنتم عرب؟!

ليست مصادفة أن يسخر الكاتب غازي أبو ريا من الوضع العربي بقوله: "الأمور أكثر من جيدة... كل المثقفين عاقلون إلا قلة اعترفت بشرها، وعاقبت نفسها بأن هاجرت إلى بلاد الغرب والشمال، تتقلب بنار الغربة، تذوق جحيم الدنيا في بلاد الغرب علها تكفر عن عصيانها، لكن، والحق يقال، المثقفون واعون لأهمية "الرأس" كعضو للبقاء، وأحسنوا صنعا حين طعموا رؤوسهم بترديد كلمات "أولياء أمورهم" فتحصنوا من مرض التفكير... والتفكير كما تعلمون مرض لا علاج له في بلاد العرب، إلا كعلاج الأسنان المتهرئة... لكن... والحمد لله، فان مرض التفكير قد ينتهي إطلاقا في بلاد العرب خلال سنوات قليلة".

ان ما يلفت النظر بعد الزلازل الديمقراطية التي هزت العالم إلا عالمنا العربي طبعا، هو ما تكتبه جل الصحف العربية عن الوضع الديمقراطي في بلدانها، وما تنشره من كتابات وتصريحات المسئولين التي تدين أي تحرك حتى لو كان "يطالب بحل أزمة بصل" مثلا، فكيف إذا كان هذا التحرك سلميا من أجل التغيير الديمقراطي؟ ألا يستحق أن يصفه كتابنا "الرداحون" الواعون بأهمية "الرأس" كعضو للبقاء بالفعل الأثيم.

في السبعينات، وفي إحدى البلدان العربية، أصدرت وزارة الإعلام فرمانا يمنع الكتابة عن هذه أزمة البصل، حقيقة لا هزلا، في الصحف المحلية درءا "للقلاقل"، إلا أن صحافيا نبيها ابتكر طريقة للتعبير ليزيد المطالبة بحل هذه الأزمة بدل تغييبها عن الرأي العام، فقام هذا اللبيب باستبدال "الأزمة الطاحنة في سوق البصل" بالنشر والحديث المكثفين عن فوائد البصل وبالغ في فوائده بالنسبة إلى الصحة والعافية، مثل حليب الناقة: يقوي البصر ويصقل العظام ويحمي المعدة من الأمراض، ما حدا بالناس بالمطالبة بضرورة توفيره ليستفيد العامة من تناوله على وجبات الغذاء حفاظا على صحتهم.

"ما علينه"، وحتى لا نخرج عن الموضوع "أكذب حديث" هذه الأيام، الحديث عن الديمقراطية، تستذكر ذاكرتنا الوطنية جماعة بحرينية كانت تعتبر الديمقراطية كفرا وإلحادا امتدادا لمفاهيم تكفيرية مستوردة من "أسلمة" خارجية تتصدر الآن "المواجهة" ضد الامبريالية الأميركية والمجتمعات "الصليبية" الكافرة وغير الكافرة و... وفي غفلة من الزمن، خرجت بتخريجة للمشاركة الديمقراطية سوية مع عباد الخلق في الحديث عن الديمقراطية، وقالت في تبريراتها الشهيرة بالقول: "لدرء مفسدة كبرى بصغرى"، فأصبحت هذه الجماعة، التي لم تخض معركة واحدة من أجل الديمقراطية في حياتها قط، حاملة لواء الديمقراطية والمزايدة رقم واحد في الحديث عنها، و"الدفاع عنها وترسيخها" في مجتمعنا!"... عشنا وشفنا.

ما نأمله منهم أن يقولوا عبارة واحدة وهم جالسون تحت قبة البرلمان أو خارجه: الديمقراطية مفسدة أم غير مفسدة بغض النظر عن صغرها من كبرها؛ أمامكم خياران لا ثالث لهما، وعليكم أن تختاروا بينهما من دون إبطاء: إما أن تقروا بأنها مفسدة، كما في تعاليمكم أو تخرجوا إلى الناس وتقولوا لهم "نحن على خطأ والديمقراطية على صواب وهي العلاج الناجع"!

ويذكرنا الشاعر الخالد سهراب سبهري:

"من أهل كاشان أنا لكن كاشان ليست مدينتي مدينتي ضاعت وأنا بالحمى شيدت مدينة في ضفة أخرى من الليل".

مسكينة، أنت أيتها الديمقراطية، الكل يتحدث باسمك ويزايد على سموك ومعانيك التي تتغلغل في أعمق أعماق الناس.

* كاتب بحريني

العدد 951 - الأربعاء 13 أبريل 2005م الموافق 04 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً