لا يختلف الثوار في جميع أنحاء العالم عن الناس العاديين أبدا، هم بشر يعيشون بيننا، يشبهوننا تماما، فما الذي يجعلهم ثوارا، أين تقع نقاط اختلافنا معهم؟ ولماذا يكونون في المقدمة دائما ونتبعهم نحن، لماذا تتعلق بهم قلوبنا، ولماذا يتركون في نفوسنا انطباعات لا تمحى من الذاكرة، بعباراتهم، بكلماتهم، بلحاظ أعينهم، وبكل مواقف حياتهم؟ إنه كم الإنسانية الذي يحملون على ما أظن، هي رهافة الحس وشفافية الروح، فهم وإن كانوا يشبهوننا الا أنهم يتألمون كما لا نتألم، يحملون عبئ آلام الآخرين ويشعرون بها كما لا نشعر، هم باختصار يحملون كما هائلا من الإنسانية لا يمكن أن تصفه الكلمات.
هم كذلك دائما، وهكذا أراد مخرج فيلم The Motorcycle Diaries "راكب الدراجة النارية" أن يقول عن تشي جيفارا، أحد أبرز قادة الثوار في القرن العشرين، الذي وإن اختلفنا معه ايديولوجيا او فكريا، الا اننا بعد مشاهدة هذا الفيلم، وعلى فرض نزاهة مؤلف نصه ومخرجه في نقل الحقيقة من دون تلميع، لا يمكننا إلا ان نتفق حول الروح الانسانية العالية التي يملكها هذا الشاب والتي ملأت نفسه حبا للآخرين وإحساسا بآلامهم، وكرها لكل الفقر والجوع والحرمان والظلم الذي يحيل حياتهم أسى وعذابا.
اشتهر كثائر مقاتل مدافع عن قضايا المظلومين والضعفاء وانتصاره لقضية يفترض ان تكون عادلة، لكننا لم نعرف ابدا كيف خلقت هذه النفس الثائرة على الظلم، ولا ندري ان كان الثوار يولدون كذلك ام انها الظروف الصعبة وقسوة الحياة التي يعيشونها أو يشهدونها بأم أعينهم هي ما يصنعهم؟
الفيلم يتكفل بالاجابة على بعض تلك الأسئلة، إذ يأخذنا في رحلة تمتد لما يزيد على الساعتين بدقائق هي ذاتها الرحلة التي عاشها جيفارا لشهور كثيرة التي خلقت منه انسانا آخر وأدت الى ولادة أحد أبرز ثوار القرن الماضي. ويتتبع الفيلم الذي أخرجه الإسباني بيتر ساليس "الذي شاهدنا له عددا من الأفلام الجيدة مثل City of God, Me, You and Them أنا وأنت وهم" رحلة جيفارا الشهيرة في أميركا اللاتينية التي قام بها بصحبة صديقه البرتو غرانادو وهي الرحلة التي غيرت مجرى حياته الى الأبد وصنعت مستقبله وحددت مصيره فيما بعد.
لم يكمل جيفارا 24 من عمره حين بدأ الرحلة، وكان على وشك بدء برنامج التدريب في كلية الطب، لكنه فضل مصاحبة صديقه في رحلة طالما حلم بها، رحلة كان يفترض ان تبدأ من الأرجنتين وتنتهي في فنزويلا إذ يحتفل الاثنان بعيد ميلاد غرانادو الـ ،30 لكن ما حدث كان مختلفا تماما إذ إنفصل الإثنان عند نقطة معينة ليعود غرانادو الى عمله السابق في الكيمياء الحيوية وليستقر الحال بجيفارا متقلدا منصبا عاليا في حكومة فيديل كاسترو بكوبا، وليصبح أحد قادة الثورة هناك ثم ليتم اغتياله بعدها على يد المخابرات الأميركية في بوليفيا في العام ،1976 في محاولة أخرى منه للمساهمة في إشعال جذوة ثورة أخرى في ذلك البلد.
الفيلم الذي بدا كرحلة تصحيح ايديولوجي "ان شاء لي تسميتها كذلك" يقدم صورة رائعة لتشي جيفارا، ولا أعرف حقا مدى صحة هذه المزاعم وان كان جيفارا في الواقع يحمل روحا شفافة كتلك التي تتضح في الفيلم. الفيلم يحاول أيضا، خلسة، ان يروج للشيوعية بطريقة أو بأخرى، فأصحاب الأرض المغبونون في حقهم والمطرودون من أرضهم الذين جردوا من كل ما يملكون بحجة تطوير البلاد، هم في واقع الأمر شيوعيون، ولقاءهم مع جيفارا هو ما يشعل جذوة الثورة في نفسه لأول مرة، وهو ما يجعله يلاحظ للوهلة الأولى مدى قبح الظلم وسوئه، وهو ما يأخذه الى الشيوعية ويجعله أحد أبرز المدافعين عنها.
إنسانية جيفارا على أية حال تثبتها حقيقة نضاله المستميت من أجل قضايا الآخرين في كوبا وبوليفيا والكونغو بعيدا عن بلده الأم الأرجنتين، وجيفارا وان كرهه البعض كنقاد الأفلام الأميركان على أقل تقدير، وهم الذين يمكن تلمس غيض بعضهم الشديد من تمجيد هذا الفيلم لشخصية جيفارا واضفاء هالة ملائكية عليه بقراءة بعض مما كتبوه عن الفيلم، على رغم ذلك لا يمكننا أن نجزم أن هذا الرجل يملك روحا معطاءة وإنسانية عالية.
يبدأ الفيلم في الأرجنتين بمشهد لجيفارا وهو يخبر عائلته عن نيته مصاحبة غرانادو في رحلته تلك، لنعرف من خلال هذا المشهد ان الفتى يحمل إعجاب والديه وان حاول الأب اخفاء الأمر وتصنع الغضب من ابنه لتفضيله القيام بهذه المغامرة وترك الدراسة، كما نعرف بعدها ان جيفارا مصاب بداء ضيق التنفس منذ صغره، هذا عدا عن أن له حبيبة لا تحمل له الكثير من الإخلاص، إذ إن هذه الحبيبة التي يمر الفتى بمنزلها قبل الانطلاق في رحلته التي بدت من أسرة ثرية، لا تتمكن من أن تقدم له أي وعد بانتظاره ان أطال السفر، لكنه على رغم ذلك يقرر المضي في ما عزم عليه، وتفي هي بوعدها على ما يبدو حين تصله رسالة لا يخبرنا المخرج عن مرسلها أو محتواها، لكننا نفترض بناء على بعض التفاصيل انها من الحبيبة الغادرة وانها تخبره فيها بتخليها عنه!
بعدها يأخذنا المخرج لنسافر مع جيفارا والبرتو ولنلازمهما طوال رحلتهما في مشاهد جاء ايقاعها بطيئا للغاية لكنه كما يبدو كان متعمدا لنعيش مع الفتى كل اللحظات التي صنعته ولندرك حجم النقلة الروحية التي مر بها جراء ما شاهده، وربما لنمر بذات النقلة ونستشعر حلاوتها، تماما كما فعل طاقم العمل، المخرج والممثلان الرئيسيان على الأقل، الذين زعموا أن مشاركتهم في الفيلم قد أحدثت تغييرا كبيرا في حياتهم وانهم ليسوا ذات الأشخاص السابقين.
الفيلم رائع بشكل عام أداءا واخراجا، كما تم اختيار بقع جميلة لتصوير مختلف المشاهد في الأرجنتين والبيرو وجميع المناطق التي زارها جيفارا في رحلته الحقيقية، لكن لعل ما يشد الانتباه هو تلك الروح الشبابية التي تسود جميع مشاهده وهي روح الانطلاق وحب المغامرة والاثارة التي نلمسها لدى جيفارا والبرتو والتي عبر عنها الفيلم من دون حاجة لأي تصنع أو تكلف في الأداء أو الأخراج، إذ لم نكن بحاجة لمشاهد بطولية يتعارك فيها البطلان ويثبتان بسالتهما وقوتهما التي لا تكسر، ببساطة كانا شابن عاديين، أوقعا نفسيهما في مطبات ومزالق بدا بعضها مضحكا أو غبيا، وقد أضافت عليها ظرافة غرانادو الشيء الكثير، بينما أظفت عليها رهافة احساس جيفارا لمسة مميزة.
لا يمكن أخيرا تصنيف الفيلم بالدرامي أو الكوميدي أو التوثيقي لكنه كل ذلك، كما لا يمكن ارجاع الفضل في نجاحه الى الإخراج أو الأداء أو التصوير أو الموسيقى لكنها الهالة السحرية التي تحيط بتشي جيفارا لدى الكثيرين أولا ثم كل الأمور الآنفة الذكر ثانيا.
الفيلم يستحق المشاهدة وهذه ليست دعوة أو للاعجاب بشخصية جيفارا لكنها دعوة لمشاهدة عمل جيد قدم بطريقة مختلفة بعيدة عن اثارات هوليوود الرخيصة وتصنعاتها المكلفة
إقرأ أيضا لـ "منصورة عبد الأمير"العدد 950 - الثلثاء 12 أبريل 2005م الموافق 03 ربيع الاول 1426هـ