الآن وبعد أن هدأت طبول الحرب وعاد السيف إلى غمده، صار من المناسب أن نسلط الضوء على ما حدث يوم الجمعة 25 مارس/ آذار ،2005 ذلك اليوم الذي شهد قيام الوفاق بتنظيم مسيرة جماهيرية رفعت شعارات جديدة على جماهير الوفاق من قبيل "بالروح بالدم نفديك يا بحرين"، ستظل تحت راية واحدة هي راية البحرين التي عانقت سماء الوطن بشكل لم يسبق له مثيل في هذه التظاهرات.
المشهد من بعيد وفي الصور التي تناقلتها وكالات الأنباء والمواقع الإلكترونية التي تابعت الحدث لا يوحي بوجود مسيرة احتجاجية ذات صبغة معادية للحكم، وإنما تشير بشكل واضح إلى مطالبة بإدخال بعض التعديلات الجوهرية على الدستور الذي ينظم العلاقة بين الشعب والحكومة، وطريقة فصل السلطات، والصلاحيات الممنوحة لكل منها على حدة، من خلال بعض اللافتات والملصقات التي رفعها المتظاهرون.
لقد كان المشهد رهيبا، آلاف من الأعلام ذات اللونين الأحمر والأبيض تعانق سماء الوطن تحملها أكف وطنية مخلصة ناضلت من أجل الإصلاح السياسي واجتهدت في طلب الانفتاح الديمقراطي في البلاد، وتحملت في سبيل ذلك الكثير من الآلام وقدمت الكثير من التضحيات، ولكنها كعادة أبناء شعب البحرين الأبي تسامت فوق الجراح وتناست كل المعاناة، وجاءت تنتصر للوطن والإصلاح بصورة حضارية وبطريقة سلمية خالية من أي مظهر للعنف.
آلاف من الأصوات خرجت من صدور مفعمة بحب الوطن، تنادي بصوت واضح المعالم "التعديلات الدستورية أولا!" ترى من أين أتى هذا الشعار؟ وكيف وجد طريقه بين كثير من الشعارات الأخرى ليفرض نفسه وبقوة على الجميع شعارا مركزيا تردده كل هذه الجموع؟ ثم ماذا بعد هذا الشعار؟ هل أن تحقيق هذا المطلب سيؤدي إلى مزيد من الاستقرار؟ أم أن ذلك سيقود إلى تدهور وانفلات أمني لا يحمد عقباه ولا يعرف أحد مداه؟
أسئلة مهمة أخالها راودت الكثير من المواطنين المجبولين على حب هذا الوطن والمنتمين إليه دما ولحما وروحا، وأحسب أن كثيرا من الأنفاس انحبست حرصا وقلقا، مخافة أن تؤدي مسيرة سترة إلى تفاقم الأوضاع وزيادة الاحتقان في الشارع في ظل غياب الحوار وتراجع التواصل بين المعارضة والحكم إلى أدنى حالاته، ولكن كثيرين أيضا كان الأمل يحدوهم والثقة تشعرهم بكثير من الاطمئنان المبني على معرفتهم الواثقة بجميع الأطراف، وبمدى ما تتمتع به السلطة والمعارضة من حرص على أن لا تصل الأمور إلى حد القطيعة الشاملة.
حال التوتر والقلق وصلت إلى أعلى مراحلها مع اقتراب موعد المسيرة، وعندما حانت اللحظة الحاسمة، إذا بالمسيرة شهادة ووسام على صدر الوطن. مسيرة تؤسس لنهج جديد في التعامل بين المعارضة والحكم، مسيرة تتمتع بكل الأسس العقلانية والقيادة الواعية والجماهير المنضبطة التي لم تخرج عن خط سير المسيرة ولم ترفع شعارات مخالفة للهدف الذي خرجت للمطالبة به "التعديلات الدستورية أولا".
لقد صار لزاما على الجميع أن يقدم تحية مفعمة بالمحبة والتقدير إلى من وقف وراء هذا التنظيم الراقي لمسيرة حاشدة بهذا الحجم، وصار من غير المقبول بعد اليوم أن تسير مسيرات كبيرة أو صغيرة تستظل بغير العلم البحريني، وخصوصا عندما يكون الشأن محليا والمطلب وطنيا، وهكذا دشنت الوفاق والأمانة العامة للمؤتمر الدستوري نمطا جديدا وتقليدا حميدا للتعامل مع القضايا الوطنية الكبرى.
ولكن وتيرة الأسئلة في تصاعد مستمر "التعديلات الدستورية أولا... ثم ماذا؟"، ترى هل هناك من داع لإثارة هذا السؤال: ثم ماذا؟ بالنسبة الي وأزعم أنني لست وحيدا في هذا الفهم، فإن مجرد القول بأن "التعديلات الدستورية أولا"، يعني أن هناك ثانيا وثالثا ورابعا... إلخ، لكنني أعتقد أن كل ما سيأتي بعد أولا سيكون في صالح الوطن، لأن من يطالب بالتعديلات الدستورية يرسل رسالة لا يجب أن تخطئها أذن، فهو يقول بوضوح لا يقبل الشك أو التأويل، سنشارك في الانتخابات المقبلة.
هذه الرسالة لا يجب أن تترك في الهواء تتقاذفها الأهواء، ثم يجب على الجهات المسئولة أن لا تميل إلى الرأي القائل أن وجود قطاع كبير من المواطنين خارج المجلس النيابي "الوفاق والجمعيات المقاطعة الأخرى" هو أمر في صالح الوطن، ذلك أن من يروج لهذا الرأي هو من حيث يدري أو لا يدري يساهم في زيادة وتيرة التوتر في البلاد، ويدفعنا جميعا نحو المزيد من الاحتقانات الطائفية، التي تزيد من الاصطفاف الطائفي البغيض.
ويبدو أن بعض الدوائر والشخصيات المصابة بالانفصام والحول السياسي قد فاجأها ما حدث، والطريقة التي سارت عليها الأمور، فراحت في غير مكان وفي أكثر من مناسبة تجمع الحطب وتصب الزيت وتبحث عن أعواد ثقاب لتشعل نار الحرب، فلقد بادرت بعض الجهات إلى تبني التصعيد ضد المسيرة ومن يقف وراءها، حتى قبل أن تنطلق المسيرة، أو تعرف الشعارات التي سترفعها، لأنها لا تريد للحياة السياسية في البلاد أن تهدأ وتستقر بدخول الجميع الانتخابات المقبلة، باعتبار أنها قد تخسر بعضا من مواقعها أو فرصها الجديدة.
إنه أسلوب جديد قديم يهدف إلى التحشيد وبث روح الفتنة والوقيعة، ذلك أن تصوير مسيرة سترة على أنها مسيرة تمثل مطالب طائفية، هو من قبيل القول ان كل من خرج في المسيرة كان مأجورا وموتورا على رغم أن الجميع يعتز ببحرينيته ويحمل علم بلاده. نعم، من خرجوا في المسيرة تلك كانوا يطالبون بالإصلاح ولم يتم رفع أية مطالب معيشية أو حياتية أو طائفية، كما يحاول المتصيدون تصوير ذلك.
لقد احترنا مع دعاة الفتن ومروجي الإشاعات، فهم من جهة يتبجحون صباح مساء بدفاعهم عن الحريات العامة، وعلى رأسها حرية التعبير وحرية التظاهر، والمطالبة بالاعتراف بالآخر، ومن جهة أخرى يقودون الحوارات الساخنة وراء الجدران للمطالبة بالوقوف في وجه هذه المسيرة وغيرها من أدوات الفعل السياسي التي تستخدم حق التعبير والتظاهر بطرق سلمية.
إنها لحظات الحقيقة حين تتجلى لتكشف معادن الناس، ونوعية الأستار التي يختبئون وراءها في المواقف الحاسمة، فإذا هم أبعد ما يكونون عن الحق الذي يدعون الدفاع عنه حين يستشعرون أن هناك حقا آخر حجب لسنوات طويلة، وآن له أن يعبر عن نفسه. وهنا تحضرني بعض الأسئلة الحساسة من قبيل، حين ترتفع المطالبة بحرية الكلمة، هل يمكن أن يستفيد منها ناس دون ناس، وحين ترفع المطالبة بتفعيل الحياة البرلمانية وإعادة هيبتها كسلطة تشريعية حقة، هل يمكن أن تستفيد دون أخرى، وهل هناك من يطالب بتفصيل دستور خاص لكل طائفة في البلاد؟
قبل أيام حضرنا ندوة في مجلس محمد الجزاف في عراد، وكان المنتدي يقر بأن هناك ظلما وتمييزا وقع ضد الطائفة الشيعية في البلاد، ولكنه أضاف أن هذا الظلم والتمييز تم من قبل الحكومة، وليست من قبل الطائفة السنية. وهو كلام لا أحد يختلف معه فيه، ولكن لماذا يحرق أصابعه حين تطالب هذه الطائفة بحقوقها من الحكومة، أم انه يريد أن يظهر بمظهر المدافع عن حقوق الطائفة السنية التي توشك أن تضيع أمام طوفان وهمي اسمه الطائفة الأخرى؟
إذا، أين المواطنة التي تتكلم عنها هذه الشخصيات، وأين المساواة والعدالة الاجتماعية التي تنادي بها، وأين ما تدعيه من الدفاع عن حرية التعبير، وأنها ضد التمييز ومع جميع المواثيق العالمية التي تنادي بحقوق الإنسان، أم أن ذلك فقط ذر للرماد في عيون الإعلام والصحافة، وفي عيون من يستمعون إليها في المقاهي والمجالس حتى يقتنعوا بأنها خط الدفاع الأول عن حقوقهم.
إن المواطنة لا يمكن لها أن تتجزأ، والحقوق العامة كذلك. وأما من يدعي الحرص على وحدة الوطن وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات فعليه أن يعمل على تحقيق ذلك، وإزالة الظلم والحيف الذي وقع على طائفة بعينها، مع التأكيد أن لا أحد يدعو إلى نزع أية مكاسب أو مواقع استحقها أي مواطن عن جدارة واستحقاق مهما كان انتماؤه الطائفي، فالجميع أمام الوطن سواء.
كلمة أخيرة لكل من يتلبس بلباس الوطنية وقت يشاء وينزعه عنه وقت يشاء، لا تتمترسوا وراء طوائفكم وكونوا أحرارا في دنياكم، شرفاء أمام تاريخكم ومواطنيكم ومخلصين لوطنكم وطن الجميع، الذي يحتاج إلى من يجمع شمله، لأن من يساهم في التفرقة كثيرون وبالجملة.
* كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 950 - الثلثاء 12 أبريل 2005م الموافق 03 ربيع الاول 1426هـ