"الأصوليات" الأميركية متفقة من حيث الجوهر على مجموعة أفكار ولكنها في النهاية ليست موحدة في منابتها الاجتماعية والتاريخية. فهناك الكثير من الاختلافات بين تيار "المحافظين الجدد" الحاكم في واشنطن، وتيار المسيحيين الأصوليين وتيار الشمولية "التمامية" البروتستانتية. فالأخير هو الأقوى تأثيرا على قواعد الحزب الجمهوري ويملك أدواته القوية لتحريض جمهوره وحشده، بينما الأول هو الأقوى نفوذا على البيت الأبيض ويملك أدواته لرسم استراتيجية واشنطن الدولية. والاختلاف في التكوين لم يمنع التوافق على الاستراتيجيات العامة والمشتركة.
"المحافظون الجدد" هم أشبه بكشكول فكري تجمع من روافد متفرقة احتوت على أيديولوجيات ليست بالضرورة موحدة على منابت فكرية واجتماعية متجانسة. فهذا التيار هو أقرب إلى التكتل الأيديولوجي، وتألف رويدا من فروع جاءت من منابت "ولايات" توزعت بين الشرق "كاليفورنيا" والغرب "نيويورك" والجنوب "فلوريدا". وتألف هذا الخليط من تيارات سياسية وفكرية ودينية متشددة، عززتها مصالح شركات النفط وصناعة الأسلحة، واستفادت من "الفراغ الدولي" لشن هجومها بغرض فرض مشروعها الخاص على جزء استراتيجي من العالم.
فكر تيار "المحافظين الجدد" ليس دينيا فقط وإنما تشكل في بداياته من مجموعة اتجاهات فلسفية عنصرية ويمينية ويسارية، ونظريات استراتيجية عسكرية وسياسية تدعو إلى الهيمنة الأميركية "النموذج الجديد". وأخذ هذا التيار ينمو في خمسينات القرن الماضي ويتطور فاختلطت فيه كتابات ليو شتراوس الفلسفية بأبحاث البرت ولستيتر الاستراتيجية.
ثم عاد هذا الفكر الفلسفي - الاستراتيجي واندمج بالتيار الأصولي المسيحي - الصهيوني. ويطلق أحيانا على هذا التيار المتدين أسماء شتى، فيعرف تارة بالصهيونية - المسيحية، وطورا بالأصولية الإنجيلية. وجوهر فكر هذا التيار الأصولي "الأميركي" على أنواعه المتفرقة أنه يتفق على الدعوة إلى التمسك الحرفي بالكتاب المقدس، والإيمان بعودة المسيح، وإنشاء دولة عاصمتها القدس ويحكمها المسيح العائد.
هذه الأفكار الأصولية "الأميركية" شكلت أرضية خصبة لنشوء تلك العلاقة المميزة بين واشنطن وتل أبيب، إذ استغل اللوبي اليهودي المؤيد لـ "إسرائيل" هذه النزعة الأصولية الجديدة وقام بتوظيفها لخدمة مشروعه في فلسطين. ولا يعني الأمر أن اللوبي اليهودي يسيطر الآن على قرارات البيت الأبيض، بل إن اللوبي الأصولي المحافظ هو من يدير اللعبة ويشرف على توجيهها خدمة لأغراض كثيرة، منها دعم "إسرائيل" وحمايتها والمحافظة على تفوقها ضد جيرانها.
لا شك في أن اللوبي اليهودي استفاد من توجهات بوش الابن وتطرفه وتعصبه ضد العرب والمسلمين، إلا أن نزعة العداء قديمة وتعود إلى زمن سابق لتأسيس دولة "إسرائيل". فالمسيحية الصهيونية تأسست قبل 250 سنة من تأسيس اليهودية الصهيونية، بل إن الأولى شجعت على قيام الثانية لتحقيق أغراض تتجاوز حدود الدين وتتصل في أبعادها الاستراتيجية والجغرافية بحدود دنيا العرب والمسلمين.
هذا التيار "الكشكول العنصري" المحافظ، الذي بات يسيطر الآن على 15 - 18 في المئة من الناخبين الأميركيين، يضم كل المدارس المتفرقة من الدين إلى النفط إلى السياسة إلى الصناعات الحربية وإلى الاستراتيجيين العسكريين الذين وجدوا في غياب المنافس الدولي فرصة للانتشار الأميركي. فهذا التيار يستغل "إسرائيل"، كما أن "إسرائيل" تستغله لمنافع متبادلة على رغم أن 71 في المئة من يهود أميركا صوتوا لمرشح الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة جون كيري خوفا من تطرف ديك تشيني، ودونالد رامسفيلد، وريتشارد بيرل، وجون اشكروفت، وجون بولتون، وبول وولفوفيتز، والقس جيري فالويل، والقس بات روبرتسون، والقس فرانكلين غراهام. فهؤلاء أكثر تعصبا من الكثير من الاتجاهات اليهودية التي تؤمن بالاندماج ولا ترى فائدة من التجمع في "أرض الميعاد" لبناء الهيكل انتظارا لعودة المسيح.
وصل ارييل شارون واشنطن، والتقى أمس الأول صديقه التقليدي بوش الابن. ومثل كل لقاء يجمع بينهما، لابد من التوجس من مستقبل هذه الصلة التي تأسست على خرافات حصدت حتى الآن الكثير من الحروب، ويرجح أن تحصد المزيد منها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 950 - الثلثاء 12 أبريل 2005م الموافق 03 ربيع الاول 1426هـ