عقد في مدينة بادوقا الإيطالية خلال الفترة من 19 - 22 نوفمبر/ تشرين الثاني ندوة بعنوان "استعادة الأمم المتحدة"، وجاءت هذه الندوة في سياق النقاش الدائر حول إصلاح الأمم المتحدة في ضوء مشروع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان لإصلاحها وتفاعلات هذا المشروع ومنه تأييد الرئيس الفرنسي جاك شيراك لضرورة إصلاح الأمم المتحدة، وفي الوقت ذاته التمسك بالشرعية الدولية التي تمثلها الأمم المتحدة حتى يتم ذلك.
حضر الندوة ممثلون عن عشرات من منظمات المجتمع المدني الدولية والإقليمية والوطنية من القارات الثلاث، وأساتذة جامعات، وخبراء دوليون في العلاقات الدولية والاقتصاد وغير ذلك من الاختصاصات التي تعنى بها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة مثل الزراعة والصحة والعمل والتجارة والمؤسسات المالية الدولية، مثل البنك الدولي ووكالة النقد الدولية ومنظمة التجارة العالمية، وحضر عن العرب ممثلون من المغرب وفلسطين والبحرين، كممثلين لشبكات منظمات المجتمع المدني العربية والوطنية.
وكانت هذه الندوة ضمن سلسلة اجتماعات وندوات وورش عمل للتحضير للمنتدى الاجتماعي الدولي السنوي الذي عقد في بورترالبجري "البرازيل" في الفترة من 21 - 28 يناير/ كانون الثاني 2005 والذي يعتبر أوسع إطار لمنظمات المجتمع المدني في العالم، والتي أضحت من أهم القوى المناهضة للعولمة المتوحشة وإمبريالية الولايات المتحدة المتفردة. كما جاءت الندوة في إطار التحضير لاجتماعات موازية لمنظمات المجتمع المدني، للقمة القادمة للأمم المتحدة في نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول ،2005 لتقييم خمس سنوات من العمل بالأهداف الألفية للتنمية، وكذلك اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد 10 سنوات من إعلان بكين حول حقوق المرأة واجتماع الجمعية العمومية العامة للأمم المتحدة كذلك بعد 10 سنوات من إعلان كوبنهاغن حول التنمية المستدامة.
والمعروف أن الأمم المتحدة عقدت مؤتمرات واسعة خاصة في نيويورك وبكين وكوبنهاغن صدرت عنها الإعلانات المذكورة وشاركت فيها الى جانب الدول، منظمات المجتمع المدني والوكالات المتخصصة للأمم المتحدة ومؤسسات ومنظمات إقليمية ودولية معنية، في توجه جديد للأمم المتحدة بإشراك هؤلاء في أعمال الأمم المتحدة.
إذا، فهناك استحقاقات قادمة للأمم المتحدة وللنظام العالمي وتتطلب من مؤسسات المجتمع المدني، ونحن جزء منه، أن يرتب أجندته ويرص صفوفه، والتحرك للتأثير في مجرى الحوادث، بما في ذلك مسار الأمم المتحدة وسياسات أعضائها فيما يخص ما تم الاتفاق عليه في مؤتمرات قمم سابقة. وقد أثبتت تحركات قوى المجتمع المدني على امتداد العالم تأثيرها على مؤتمرات الأمم المتحدة السابقة ومؤتمرات المؤسسات العالمية الدولية مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والقمم الصناعية، مثلما حدث في جنوا وسياتل وواشنطن وغيرها.
تأسست الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو العام في ،1946 بعد الحرب العالمية الثانية الكارثية وكان الهدف من إنشائها إقامة نظام دولي جديد تكون الأمم المتحدة أهم ركيزة فيه لضمان السلم والأمن والاستقرار في العالم وفي العلاقات الدولية، وتأمين حق المصير للشعوب الواقعة تحت الاحتلال أو الاستعمار أو الانتداب، وضمان حقوق الإنسان فردا وجماعة في أي مكان من العالم، من دون اعتبار لجنسه أو جنسيته ودينه وعقيدته وأصله وعرقه!
وقد تتالت وثائق الأمم وأهمها الميثاق والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين، ثم من بعدهم العشرات من المواثيق والعهود والإعلانات والبروتوكولات لتؤكد ذلك. كما أن معظم أجهزة الأمم المتحدة مثل الجمعية العامة، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ولجنة حقوق الإنسان ومكتب المفوض السامي، والمفوضية السامية لشئون اللاجئين والوكالات المتخصصة في الزراعة والصحة والعمل والتجارة وغيرها، قد أقيمت للتخطيط والتعاون وتنفيذ مقاصد الأمم المتحدة، وتستند على مبدأ العلاقات الديمقراطية والسيادة المتساوية بين الدول الأعضاء، كبيرها وصغيرها.
لكنه ومنذ البداية فقد كان الميثاق وبنية الأمم المتحدة وخصوصا الصلاحيات المناطة بمجلس الأمن تعكس حضور القوى الخمس الكبرى المنتصرة في الحرب الثانية "الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا والصين". فقد أعطى الميثاق من خلال مجلس الأمن امتيازات وصلاحيات لهذه الدول من خلال مجلس الأمن الذي أنيطت به صلاحيات السلم والأمن في العالم، من قبيل العضوية الدائمة وحق النقض لأي قرار يصوت عليه.
كما فوض مجلس الأمن باستخدام القوة حسب الفصل السابع ضد أي من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إذا ما اعتبرت أنها تهدد السلم والأمن العالميين. كما عكس الميثاق والمواثيق اللاحقة انقسام العالم الى معسكرين الرأسمالي والاشتراكي اللذين اقتسما النفوذ في العالم، وكذلك الحصص في أجهزة الأمم المتحدة وخصوصا مجلس الأمن.
وعند مراجعة سجل الدول الأربع دائمة العضوية في مجلس الأمن "باستثناء الصين" سنجد أنهم أكبر المسئولين مباشرة أو عن طريق حلفائهم أو عملائهم أو وكلائهم في الدول الأخرى في إشعال الحروب، واحتلال بلدان ودول أخرى أعضاء في الأمم المتحدة وانتهاك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، خصوصا خارج بلدانهم، وقواعد العلاقات الدولية ما نص عليها الميثاق - التي تقوم على الندية واحترام السيادة والمصالح المتبادلة والعدالة والسلم والأمن العالمي. ومن المفارقات أن صدور الميثاق سبق اغتصاب فلسطين بعام بقرار التقسيم، وتزامن إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مع قيام دولة "إسرائيل" واعتراف الأمم المتحدة بها، وبالتالي إضفاء الشرعية عليها.
ومن أخطر الاختلالات في نظام الأمم المتحدة وممارساتها هو أن مجلس الأمن تجاوز صلاحياته على حساب الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي. إضافة الى كونه غير خاضع للحساب أمام الجمعية العامة. وهكذا أضحى مجلس الأمن يناقش ويقرر في القضايا كافة، ولكن الأخطر هو أن قرارات المجلس لا تأخذ في الاعتبار مصالح الشعوب والأسرة الدولية، إنما استنادا الى مساومات المعسكرين ومصالح الدول الكبرى، حتى انهيار المعسكر الاشتراكي في .1991
أما الأخطر فهو أنه بعد انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي، وعلى رغم احتفاظ الاتحاد الروسي بكرسي الاتحاد السوفياتي في مجلس الأمن، فإن اختلال الميزان الدولي أدى الى أن تصبح الولايات المتحدة القوة العظمى المنفردة بقيادة النظام العالمي والمقررة لمصيره، وهو ما انعكس على العلاقات الدولية، وعلى الأمم المتحدة ذاتها.
وعمدت الولايات المتحدة الى تهميش الأمم المتحدة كجهاز للإدارة الدولية الجماعية الأخرى للسير في ركابها، كما حدث في العراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب. اما الاتجاه الخطير الآخر، وهو انه على رغم ما ينص عليه الميثاق في أن تكون جميع المنظمات الدولية الجديدة مرتبطة بالأمم المتحدة، فإن المنظمات المالية التي تشكلت بعد قيام الأمم المتحدة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، مستقلة عن الأمم المتحدة ولا تخضع لمراقبتها، بل أن منظمة التجارة العالمية قد قامت وتعمل على حساب منظمة الأمم المتحدة للتجارة "اليونكتاد".
الأمم المتحدة بأجهزتها ووكالاتها تحولت الى بيروقراطية ضخمة تستهلك معظم ما هو مخصص من أموال واعتمادات لبرامجها، إذ يجرى اقتسام الحصص فيما بين الدول الكبرى، ويتم توجيه الكثير من نشاطاتها لخدمة هذه الدول وليس الدول الفقيرة في العالم الثالث والتي تشكل غالبية دول المنظمة.
لقد طرح هذا السؤال الجوهري أمام المشاركين في ندوة بادوفا "استعادة الأمم المتحدة"، والبعض أبدى يأسه من إمكان إصلاح الأمم المتحدة، خصوصا في ظل استقواء الدول الكبرى الغربية، والضعف الشديد لدول العالم الثالث بل وفساد الكثير من حكوماتها وتبعيتها للدول الغربية. ولكن غالبية المشاركين في الندوة، مع تعدد اجتهاداتهم وآرائهم، يرون ان من الضروري والواجب النضال لاستعادة الأمم المتحدة لأنها بكل بساطة تخص البشرية وليس الدول الكبرى. ويمكن تلخيص أهم المقترحات لإصلاح الأمم المتحدة:
1- مجلس الأمن: جعل حق الفيتو جماعيا لثلاثة من الأعضاء الخمسة الدائمين وفي مجلس الأمن، ما يجعل اتفاقهم أكثر عدلا وعقلانية في معارضة أي قرار. وحصر صلاحيات المجلس على قضايا الأمن والسلم العالميين مع وضع معايير صارمة لدى التزام جميع الدول الأعضاء الخمس عشرة بالمجلس "الدائمين والمناوبين" وخصوصا الدول الخمس الكبرى، وتعليق عضوية من يخرق منهم قواعد العلاقات الدولية والقانون الدولي لمدة محدودة، وحلول أعضاء احتياط محلهم خلال هذه المدة.
وقد عارضت الغالبية فكرة توسيع مجلس الأمن المطروحة حاليا، واقترح البعض أن يتم توسيع العضوية بحيث تشمل أكثر الدول سكانا بحيث تمثل قاراتها بشكل عادل يعكس تمثيل البشرية، كما اقترح البعض إنشاء مجالس أمن إقليمية مثل مجلس أمن لآسيا وآخر لإفريقيا وثالث للشرق الأوسط وآخر لأميركا اللاتينية، وكذا لوسط أوروبا.
كما اقترح أن يخضع مجلس الأمن لرقابة ومحاسبة الجمعية العامة، وأن تنبثق لجنة من الجمعية العامة تراقب المجلس وتصدر تقريرا يوميا عن حال السلم والأمن في العالم، ويقدمها للمجلس والجمعية العامة.
2- الجمعية العامة: اتفق الجميع أن يكون للجمعية العامة صلاحيات أوسع، بحيث تكون قراراتها ملزمة، والزام مجلس الأمن بتنفيذ القرارات المتعلقة بالسلم والأمن ومراقبة مجلس الأمن ومحاسبة أعضائه، بل وعزل من يخرق منهم قواعد العلاقات الدولية وإحلال البديل عنهم، بمن فيهم الأعضاء الدائمين. واقترح أن تخضع جميع أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها للجمعية العامة، مع ما يتطلب ذلك من استحداث أجهزة رقابية، وأن يتم انتخاب الأمين العام من قبل الجمعية العامة. إما الاقتراح الجذري فهو أن يجرى انتخاب الجمعية العامة للشعوب الى جانب الجمعية العامة الحالية للدول، بحيث تمثل منظمات المجتمع المدني الوطنية والإقليمية والدولية في الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ولكن لم تتبلور صيغة عملية للاقتراح كونه طوباويا صعب التحقيق.
3- قوة سلام دولية دائمة: إذا كانت الحروب تكلف مئات البلايين كما في العراق، فإن الوقاية منها ومعالجتها دوليا ستكلف بضعة مليارات، لو أقيم نظام دولي عادل وفاعل. وقد اقترح البعض إنشاء قوة سلام دولية دائمة في الدول ذات السجل الجيد تأتمر بأمر الأمين العام، وباشراف مجلس الأمن، ولها صلاحية الحفاظ على السلم والأمن العالمي، والتدخل السريع بقرار من مجلس الأمن في حال اعتداء دولة ضد أخرى، وفي حال الحرب الأهلية أو نزاع مسلح بين دولتين، وتكون مهمتها إيقاف العدوان ورد المعتد إلى أراضيه وإزالة الاحتلال وتأمين السلم الأهلي، والانتقال بالبلد المعني الى نظام ديمقراطي مستقل. قد يكون ذلك حلما أيضا، لكنه حلم جميل.
* ندوة إصلاح الأمم المتحدة، نادي العروبة، بتاريخ السابع من الشهر الجاري
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 948 - الأحد 10 أبريل 2005م الموافق 01 ربيع الاول 1426هـ