نعرف مسبقا أنه لا يوجد هناك حوار آمن بالكامل، فهناك دائما هامش للوقوع في الخطأ، ومع ذلك لابد من تعميم ثقافة الحوار في كل الأمور: في الموقف الجديد أو في الموقف الغريب أو في الموقف الشاذ، من خلال حوار حضاري يستطيع الواحد منا أن يقارع الحجة بالحجة، ويكشف الخصم للحكم أو لمؤيديه صحة خصمه من خلاله. دعونا أيها الطيبون نسأل: ما الذي يجري بالضبط؟! ولم استخدام "لغة السكاكين" العربية في الحوار وضد من، ولمصلحة من؟ ولماذا نتكاسل في التمرين على الاستنطاق وممارسة الفهم والاستماع الجيد؟ وأخيرا وليس آخرا لنطرح أسئلة لحوحة ولجوجة بها من أدوات: "لماذا وكيف؟ ونكثر منهما في صغائر الأمور وكبائرها". سؤال آخر يلامس الواقع: لماذا أصبحنا مثل السمكة "المتلبطة" كما في التشبيه الصيني لأوضاع البشر والقائل: "نحن كسمكة كبيرة سحبت من الماء فشرعت تتقافز وتتلبط بعنف بحثا عن سبيل يعيدها إليه. وفي مثل هذه الظروف لن تتساءل السمكة إلى أين ستؤدي بها اللبطة التالية. ما تدركه فقط هو أن وضعها الراهن لا يطاق، ولابد من تجربة شئ آخر".
قناعات جديدة تعني في المقابل نسيان مساحات حالكة السواد من التاريخ، ببساطة يقول كاتب عراقي غاضب واسمه صائب خليل في هذا الصدد: "يجب على العراقيين أن يذكروا أن أميركا أزالت صدام، لكن أن ينسوا أنها جاءت به وعصابته إلى الحكم وساندته في الثمانينات، عندما كان يرتكب جرائمه الكبرى. أما العالم فيجب أن ينسى المسئولية التامة للرأسمالية عن حربين عالميتين مدمرتين من أجل المال والسلطة، واختراع اسلحة الدمار الشامل واستعمالها ضد مدن بأكملها حتى عندما لا يكون لذلك مبرر غير الارهاب والرغبة بتجربتها على البشر". معادلة أخرى لا تخلو من خبث المشاغبة الفكرية والسياسية على طريقة البرنامج الاقتصادي في فضائية "العربية" حين يحلل أحد الضيوف ظاهرة اقتصادية فيقول: "كلنا يريد ربحا أكثر ابتداء مني ومنك"، حسنا وماذا بعد...؟ لنقرب الفكرة أكثر على موضوع القناعة وكيف نقتنع؟ أبسط الطرق للإقناع هي الأمور التي تلامس الواقع ويصدقها العقل بعد التجارب، غير أن استبدال قناعة بقناعة أو مبدأ بمبدأ، يحتاج إلى رؤية متبصرة، و"البصيرة تستطيع أن تعوض عن فقدان البصر، ولكن البصر لا يستطيع أن يعوض عن فقدان البصيرة" كما يقولون. أي استبدال قناعة بقناعة من المفترض أن تكون الثانية أكثر حضارية، وإلا أصبحت رجعية، وعليه يرى كاتب يساري أعطى رؤية مماثلة لذلك أنه: "مثلما كانت الديمقراطية هي "مشاركة" السلطة السياسية، مقابل الدكتاتورية السياسية، فإن العدالة الاجتماعية هي المشاركة الاقتصادية مقابل الرأسمالية. ومقابل نداء الدكتاتورية والرأسمالية "كل شيء لي" يكون نداء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية: "كل شيء للجميع". الديمقراطية والاشتراكية تنسجمان في مبدأيهما مثلما تنسجم الرأسمالية والدكتاتورية في مبدأيهما. الأولى تتميز بالأنانية وبقصر نظر وراثي، يتمثل في هدف الربح السريع، في حين تتميز الثانية بالاهتمام بالمجتمع والمستقبل والبناء له، لكن العالم سار في تجربة مقلوبة". لا بأس لحزن حلم الفقراء الذي لم يتحقق. فقد انتصرت الديمقراطية الرأسمالية على الاشتراكية عالميا، وأصبح العالم اليوم يحكم بواسطة دولة "وحيد القرن" ربما بها محاسن، ولكن بها حماقات أيضا، وربما واحدة من تلك وأخرى من تلك "خير وشر"، غير انها لا تملك الحقيقة الكاملة. فأحيانا لا يعبر عن الحقيقة إلا قلة، وربما مجرد فرد واحد، ولا يضير الحقيقة أن يكفر به الناس جميعا، فالنار التي أحرقت الحلاج قد انطفأت، ولكن الذي بقي وسيبقى هو صرخة الحلاج "أنا الحق".
بورصة الأخبار السياسية في مصر ولبنان والعراق والبحرين والأردن والسعودية تشهد رواجا هذه الأيام، وخصوصا أن جملة أكاذيب تتحرك على طاولة أصحاب الشأن بشأن تحركات "شوارعية" من أجل التغيير. في مصر "كفاية"، وفي لبنان "حرية واستقلال"، وفي البحرين "دستور وبطالة وتجنيس وبيئة وفساد"، وفي السعودية ظهرت مفردات جديدة يتداولها السعوديون كانت جديدة على آذانهم "انتخابات... مجالس بلدية... يقابل ذلك إرهاب أحمق". حسنا، تقرير التنمية البشرية اختزل المسألة في تشظي الحريات، وفقدان الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة عن طريق الاقتراع. أصحاب الشأن لهم ذرائعهم في مقاومة هذه التحركات من أجل التغيير، تارة بحجة "تعطيل الحياة اليومية"، وتارة بأنها تضر بالاقتصاد وتهرب الاستثمارات، أو أنها لم تحصل على إذن من السلطات المختصة! في جل الوطن العربي الكبير توجد أجهزة إعلام عاشت على الكذب وأدمنت الاختلاق، وبذلك تقدم لأصحاب القرار صورة فنتازية وهمية خادعة عن الأوضاع، فتضر الحكم قبل أن تنفعه. فالحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" تصبح بقدرة قادر: "حركة ساقطة على مصر من الخارج، وأن السلطات تعرف طبيعة هذه الحركات جيدا!". وماذا بعد؟ ربما لم تصدق العواصم العربية بعد أن رياح التغيير تهب عليهم من بغداد، وأن كل خطوة نجاح للتجربة العراقية، هي خطوة ملموسة باتجاه استنهاض الشعوب العربية وتحريكها من أجل التغيير الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، وصولا إلى ممارسة الديمقراطية والحريات بأجمل صورها وسحرها. فقد انتخب العراقيون جمعيتهم الوطنية "البرلمان: بر الأمان" ورئيسهم أصبح مواطنا عراقيا كرديا، احتراما للمواطنة الحقيقية، ورئيس وزرائهم سيقوم "بر أمانهم" بطرح الثقة فيه وفي حكومته التي ستصرف الأعمال وصولا لإعداد دستور بتوافق كل مكونات الشعب العراقي. هذه هي الديمقراطية التي ستسحر عقول الشعوب العربية، لا الهرولة التي نشهدها الآن بعد سبات عميق باتجاه "الترميم السطحي والإصلاح الشكلي والتنازل الجزئي" من أجل البقاء أكثر فترة ممكنة بالسلطة! * كاتب بحريني
العدد 946 - الجمعة 08 أبريل 2005م الموافق 28 صفر 1426هـ