لست رادودا، ولا أفقه في الألحان والنغمات والأطوار، فلذلك أهله، ولكني وجدت أن من الأجدى التعرض للموضوع لعل وعسى يجد له أذنا صاغية من ذوي الشأن والاختصاص، ولاسيما من القراء والرواديد القديرين، فهم أولى بالقيام بهذا الجهد. وجد في الفترة الأخيرة اتجاه عام يدفع إلى تدوين الكثير من الموروث والتراث البحريني الأصيل الذي ظل لسنوات طوال حكرا على الجانب الرسمي المكتوب، أو كان شفاهيا فيه مجال للزيادة والنقص والنحل "الاختلاق". والآن بدأ هذا الاتجاه ينمو ويبدع، ولكنه يحتاج للدفع أكثر. ولا ننسى هنا ذكر فضل بعض الباحثين والمؤرخين كالشيخ محمد علي الناصري الذي دون كثيرا من الموروث الشعبي البحراني، وحفظ ما كتبه في كتب لم تلق بيننا العناية الحقيقية. إني في ملاحظتي أنطلق من نافذة المقامات القرآنية التي تجد الكثير من العناية والرعاية، ومهم أن نتذكر أن بعض الفنون المرتبطة بالصوتيات كقراءة القرآن والنعي والعزاء من الصعب تدوينها، إذ تظل الممارسة الشفوية المعتمدة على السمع والنطق هي العمدة في التدريب والتعليم. فالمقامات القرآنية السبعة مثلا لها أشرطة كثر تتبع فنونها من أفواه القراء الكبار، وترصد نماذج بإمكان أي طالب الاستفادة منها، واحتذائها، وذلك إيمانا بالنظرية الكلاسيكية التي ترى في الإبداعات طريقا يختصر على المبتدئين الكثير، ويضع أرجلهم على الطريق. ولكن للأسف فإن الأطوار المستخدمة في العزاء أو النعي لم تلق العناية الكفيلة بحفظها من الضياع، إلى درجة أن بعض الأطوار التي ابتكرها بعض "الملالي" البحارنة القدماء لم يكتب لها النجاح لأنها ماتت بموت أصحابها ومبتكريها كما أخبرنا الملا محمد جعفر العرب وذلك لغياب العناية أو لعدم توافر الوسائل المعينة على التوثيق، ولا ينسى إعراض الناس عن إبداعات لإعجابهم بطور معين، وهذا يحيلنا إلى حكم الناس العاطفي على أدائنا، فأصبح الأداء البحراني لا يعجب الكثيرين على حساب الأداء العراقي فصار الكثيرون "مستلبين" للعراقي لهجة ولحنا، وغدا كثير من خطبائنا ورواديدنا - ولا أعلم نسبتهم - في أعقاب الجهل بالمقامات والأطوار يجيدون في الغالب أداء كثير من الأطوار، ويضبطون مقامات بشكل متقن، ولكنهم يجهلون أسماءها وتنوعاتها ومصدرها. فمثلا هناك طور بحراني، وآخر عراقي، وآخر إحسائي وبحر طويل و... وهناك مقامات سبعة تكون خالصة تارة وتختلط ببعضها أخرى. وكل طور محبب لأهله، ونابع من بيئة وخلفية ثقافية محددة، وبعضها متأثر بطبيعة المهنة كالرعي والبحر، فتجد ألحانا قريبة من ألحان الغوص أو حداء الإبل والربابة، وبعضها يناسب موضوعا أو موقفا دون آخر ولكن من الذي يرصد ذلك ويوثقه ويتأكد من صحته؟ تلك هي المسألة بل المشكلة. المطلوب هو أن يشرع المهتمون مجتمعين وبشكل مؤسسي لا فردي في إعداد دراسة سمعية، مصورة تتبع الأطوار والألحان، وتنتقي لكل نمط وطور نماذج من الخطباء والنعاة والرواديد - قدماءهم ومحدثيهم - كي تعطي خطباء ونعاة ورواديد المستقبل خلفية تاريخية عن كل طور، وأبرز من اتبعه، وأين نشأ، ومن ابتكره، وما مزاياه، بالضبط كالمعمول به في عالم المقامات القرآنية وعالم الموسيقى، أي في الخلاصة هي دراسة توثيقية في الجانب النظري والعملي، وواقعا فإن ذلك الجهد ليس هينا، ولا ينبغي أن نعول فيه على اجتهادات شخصية ومحاولات قد تموت بموت حماس أصحابها، بل لابد من "مأسسة" المشروع، وإخضاعه للدراسة الجادة. ولا مانع من تتبع أولي يرصد أبجديات المشروع من باب التمهيد، والأولى عقد جلسة لجميع المهتمين لوضع تصور أولي للمشروع. هذا الجهد حتما سيكون مشكورا، ومدعاة لحفظ هذا التراث المرتبط بالمنبر الحسيني. وأنا أطرح هذه الفكرة تمر أمامي بعض الجهود المشابهة إذ تجد الأشرطة والأقراص الممغنطة الخاصة بالمقامات القرآنية منتشرة بين أهلها، وهناك مواقع إنترنتية تعنى بذلك كموقع "إنشاد" الإلكتروني الذي يرصد للمقامات والألحان معتمدا على تقنية الوصلات الصوتية، المرئية. ومع هذا الطرح يؤسفني رحيل كثير من عمالقة المنبر - على المستوى المحلي كالشيخ حسن زين والإقليمي كالشيخ الوائلي - مع أسرار هذه المهنة. فلا بد من الاستفادة من الموجودين سواء كانوا خطباء أم رواديد، ومن خبرتهم لتتبع ودراسة هذه الظاهرة. * ركلة: بلغ إعجاب الجمهور البحريني بشريط الرادود جليل الكربلائي الذي أنشد فيه قصيدة الشيخ حسن الدمستاني حدا جعله ينفد من الأسواق، والغريب هو إعجاب أحد أبناء الجاليات العربية بالشريط بعدما سمعه مني، إذ طلب نسخة منه... يا ترى ما سر هذا الإعجاب، وألم يكن جديرا أن تبلغ أشرطتنا - من الإنتاج المحلي - ذلك القدر الذي نخرج به الحسين "ع" إلى فضاء الإنسانية الأوسع على مستوى الشريط، فضلا عن الممارسة العاشورائية في بعض أنماطها؟
العدد 945 - الخميس 07 أبريل 2005م الموافق 27 صفر 1426هـ