حزنت كغيري من ملايين الناس على وفاة الفنان المتوهج أحمد زكي، لكن أقلقني بعض ما واكب وفاته، بل وصاحب مرضه ومعاناته الطويلة، من مظاهر وتطورات كانت موضع نشر واذاعة باسم حرية الصحافة والاعلام في اطلاع الناس على كل ما يجري. الذي احزنني يدخل عادة في الجانب الشخصي والمشاعر الذاتية، أما الذي أقلقني فهو ما يدخل في الجانب الموضوعي المرتبط بقضية عامة شغلتنا جميعا ومازالت وهي قضية إلى أي مدى تتيح "الحرية" للصحافة والإعلام الغوص في حياة الناس الخاصة، والبحث عن خفاياهم والكشف عن اسرارهم حتى في مراحل الموت؟! هكذا دفعتني وفاة فنان أحببت اعماله المميزة، وما صاحبها من نشر واذاعة مسموعة ومرئية الى العودة للكتابة في موضوع يهم الجميع، وهو حرمة الحياة الخاصة، وحق الصحافة في تناولها والمبالغة في عرضها وتعرية خفاياها حتى لو كانت حياة "رجل عام" أو فنان بحجم ووزن أحمد زكي. وبداية نقول ان الحزن شعور إنساني مشروع ومفهوم، وهو ما عبر عنه ملايين الناس في مصر والبلاد العربية، تعبيرا صادقا نابعا من اعجابهم بهذا الفتى الأسمر القادم من ريف مصر، الى اضواء القاهرة غريبا فقيرا ممزقا عائليا، فاذا به تحت "راية التحدي" يصعد سلم الاضواء الباهرة بسرعة صاروخية، بفضل المثابرة والاجتهاد والموهبة والتعلم، وحين بلغ قمة نضجه اخذ مصعد الهبوط سريعا نحو الموت في دراما إنسانية لافتة ومأسوية! لكن أشد ما أقلقني هو ما صاحب رحلة معاناة هذا النجم، التي امتدت لنحو ثمانية أشهر، من مبالغات بدت طبيعية أولا ثم سرعان ما تكشف فحواها الاستغلالي، اذ كيف نحول معاناة انسان مريض يصارع السرطان في آخر مراحله، الى مجرد دعايات تجارية وسياسية وفنية لا تخدم المريض ولا تساعد الاطباء في مواجهة سرعة انتشار المرض، ولكنها تخدم اغراضا أخرى تكمن وراء كل هذا الاهتمام المبالغ فيه! أشد ما أقلقني هو ضجيج الصخب الاعلامي، الذي صاحب دراما الموت، من دون احترام لمبادئ وقيم بل هو ضجيج انتهك قوانين وشرائع تصون حرمة الحياة الخاصة، أو خصوصية كل منا، وتحديدا اذا تعلق الأمر بقسوة معاناة مرض سرطاني ينهش في الجسد رويدا رويدا، ثم ينقض في آخر الأمر بكل قوته وكل مريض وحظه في سرعة اكتشاف المرض، وفي التشخيص الطبي السليم، ثم في فاعلية العلاج وقدرته على المقاومة. وأثق ان لا أحمد زكي، ولا أي واحد منا، يحب ان تكشف تفاصيل معاناته القاسية، واحساسه بتجرع سكرات الموت المؤكد لحظة بلحظة، لكي تتحول الى مادة صحافية واعلامية، يتناولها الجميع يوميا، اختراقا لمبدأ اساسي هو ان للموت قدسية. وكما، ان للموت قدسية فإن للحياة خصوصية، وهو مبدأ يجب ان نغتنم هذه المناسبة لكي نعيد تأكيده من جديد، وخصوصا نحن نمر بمرحلة تحولات كبيرة، سمحت بقدر من حرية الصحافة والرأي والتعبير، ومن ثم تكاثرت من حولنا الصحف اليومية والاسبوعية وتشابهت علينا الفضائيات التلفزيونية الجادة والصاخبة وتسابق الجميع بحثا عن المواد المثيرة والشيقة التي تجذب الجمهور، والتزم البعض بالمبادئ والقوانين واخلاقيات المهنة، وكسر البعض الآخر كل هذا قفزا نحو ما نسميه "الصحافة الصفراء والشاشات الحمراء"!
وبقدر تشجيعنا وسعادتنا باتساع هوامش حرية الصحافة هنا وهناك انطلاقا من مبدأ رئيسي هو ان حرية الصحافة والرأي والتعبير هي المقدمة الحقيقية لباقي الحريات، وهي الاساس للتطور الديمقراطي السليم، بقدر تخوفنا من اساءة استغلال هذه الهوامش التي مازالت محدودة، في اقتحام خصوصية الناس وتعريتهم من دون إرادتهم. ففي مثل هذه الحال سرعان ما ينقض اعداء الحرية عموما وأعداء حرية الصحافة، والرأي خصوصا، على هذه الهوامش المحدودة، فيحيلونها الى أسوار حديد تنتهك الحريات باسم القانون والاخلاق ومن ثم فان الامر يتطلب من الصحافة والاعلام اكبر قدر من الدقة والصدق، في أداء الرسالة الاعلامية بابلاغ الناس بما يدور من ناحية، كما يتطلب اشد أنواع الالتزام بمواثيق الشرف وأخلاقيات المهنة واحترام القانون، من ناحية ثانية حتى لا نترك ثغرة لأعداء الحرية! بين التسابق والتركيز الاعلامي في معاناة أحمد زكي سكرات الموت ونقل تفاصيلها الى القراء والمشاهدين عبر الصحف والتلفزيونات، "حتى انني علمت بأن هناك من حاول تصويره في لحظاته الأخيرة لكنه لحسن الحظ فشل"، وبين التزام أو عدم التزام الصحافيين بمواثيق الشرف وبحرمة الحياة الخاصة، تفجرت القضية أمامي، ولم يكن تركها على ما هي عليه ممكنا لأنها قضية عامة تحتاج لدرس وفحص وحوار واتفاق. بداية استقرت الادبيات القانونية والاعلامية الدولية، على تعريف محدد للحرمات الشخصية، وهو "حق الفرد في أن يترك حرا لنفسه، يعيش حياته بأقل قدر من التدخل، وهذا يعني حق كل فرد في أن يعيش حياته في ظل الحماية ضد: 1- التدخل في حياته الخاصة والعائلية والمنزلية. 2- التدخل في تكامله العقلي والجسماني أو حديثه عن مبادئه وثقافته. 3- التهجم على شرفه وسمعته. 4- كشف المواقف المحرجة في حياته الخاصة. 5- استغلال اسمه أو شخصية شبيهة له. 6-التجسس والتلصص والمراقبة. 7- الرقابة على مراسلاته. 8 - الاستغلال السيئ لاتصالاته ومراسلاته التحريرية والشفهية. 9- استغلال المعلومات الخاصة به من خلال ملف عمله أو مهنته. 10- وضعه تحت أضواء مضللة وخادعة. "كتاب أحزان حرية الصحافة لصلاح الدين حافظ". فإن كان المشرعون قد وضعوا هذه الضوابط لحماية كل انسان في ان يعيش حياته الشخصية بحرية كما يريدها، من دون الاضرار بالآخرين، فما بالكم والحال هنا يتعلق بضرورات حماية الانسان في ان يلقى وجه ربه هادئا مؤمنا مطمئنا بعيدا عن صخب الميكروفونات وأضواء الكاميرات. أظن ان صحافيينا واعلاميينا هم اليوم في حاجة ملحة لاعادة النظر في كثير من الامور، التي استجدت في ظل هوامش الحرية واندلاع ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال، والتي يجب ان يفصل فيها ميثاق الشرف الصحافي، قبل ان يتدخل "ترزية القوانين" باستصدار قوانين مقيدة جديدة، تزيد القيود والعقوبات شدة وقسوة! وبالموازاة فإن من الضروري توضيح الحدود بدقة أكثر اذ ان هناك فوارق كثيرة بين صيانة حرمة الحياة الخاصة للناس ومدى حق الصحافة والإعلام في اقتحام اسوارها بحجة اطلاع الجمهور حتى على الاسرار، وبين حق الصحافة والاعلام في نقد اعمال وسياسات الرجل العام، سياسيا كان أو حزبيا أو أديبا وصحافيا أو نجما سينمائيا وتلفزيونيا.
اذ بقدر حرصنا على صيانة حرمة الحياة الخاصة للناس، بقدر ايماننا بحق نقد تصرفات وسياسات الرجل العام، الذي يحتل منصبا او يشغل موقعا يطل منه علينا أو يتحكم في جزء من أمورنا، أو الذي يطرح نفسه نموذجا وقدوة للآخرين... ذلك انه حق أصيل وواجب رئيسي من واجبات الصحافة والاعلام في كل الظروف من دون السقوط في شباك القذف الذي حدد القانون ضوابطه فان كانت الحياة الخاصة هي ملك للفرد لا يجب انتهاكها، فإن الحياة العامة والممارسات العلنية لأي مسئول أو نجم حالي أو سابق هي ملك للمجتمع، تخضع للنقد والفحص والمحاسبة. بقيت القضية الأخيرة التي أثارتها دراما معاناة وموت النجم أحمد زكي الذي توهج سريعا وانطفأ سريعا كالشهب اللامعة، ونعني قضية "الموت الرحيم" أي متى يكون من حق الطبيب المعالج، أو من حق أسرة المريض المشرف على الموت، نزع وسائل التغذية والتنفس الاصطناعي والمساعدة بانهاء معاناة مريض إذ كان ميئوسا من شفائه، أو إفاقته من غيبوبته، وهي الحال التي نعلم أن أحمد زكي قد عاشها في أيامه الأخيرة. هذه قضية خلافية فيها وجهات نظر كثيرة، ولها معايير فقهية شرعية، وأخلاقية وقانونية وطبية، اتفق عليها معظم الاطباء واختلف عليها الفقهاء، "وفي اختلافهم رحمة"، كما يقولون كما انها قضية مثارة عالميا، وكانت اكثر اثارة في اميركا قبل أيام عن حال المريضة "تيري شاينو" التي بقيت 15 عاما فاقدة الوعي، بفضل أجهزة التغذية والتنفس الاصطناعي واختلفت بشأنها الاراء هل تنزع هذه الاجهزة عن مريضة ماتت اكلينيكيا أم تبقى طالما ان قلبها ينبض بالمساعدة الطبية... وانتهى الامر بحكم نهائي من المحكمة الاميركية بنزع كل الأجهزة لتموت تيري في النهاية! هذه مسألة فيها جانب ايماني وفلسفي ايضا، فإن كان العمر قد انتهى بدخول مرحلة المعاناة من سكرات الموت، فلماذا انتظاره طويلا، ولماذا اطالة معاناة المريض وعذاب أهله، لقد خلق الله الطب والعلاج لانقاذ الانسان من أمراضه ومداواة علله، وكم هي كثيرة لكنه كتب علينا الموت في النهاية وجعل الطب والدواء وسيلة لتحسين ظروف الحياة. وبقدر ما نجحت ثورة التكنولوجيا الحديثة وخصوصا في مجالات الطب والتشخيص والادوية في اطالة الاعمار وانقاذ مرضى شارفوا على الموت، بقدر ما نتمنى ان ننقل عن الغرب الأوروبي الأميركي الانجاز العلمي والطبي الهائل في هذا المجال، وان نعطي اهتماما أفضل للانفاق على صحة مواطنينا وأن تهتم صحافتنا واعلامنا ايضا بمئات الآلاف من مرضى السرطان الذين يموتون كمدا لانهم لا يجدون ثمن الدواء الباهظ وقد لا يجدون العناية والرعاية اصلا. رحم الله النجم المحبوب الذي اتاح لنا فتح هذه الملفات المسكوت عنها، ربما بكثير من الاهمال، وربما بسبب العواصف السياسية والمزايدات الاعلامية!
قال الشاعر إذا حكم القضاء على امرء فليس له بر يقيه ولا بحر * مدير تحرير صحيفة "الأهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 945 - الخميس 07 أبريل 2005م الموافق 27 صفر 1426هـ