العدد 945 - الخميس 07 أبريل 2005م الموافق 27 صفر 1426هـ

ابن سينا والمعري: التشابه والاختلاف

المعري. .. الفلسفة شعرا "1"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ولد الشاعر الفيلسوف أبوالعلاء المعري قبل ابن سينا بثماني سنوات وتوفي ابن سينا قبل المعري بنحو 20 سنة. فالطبيب الفيلسوف الذي أحب الدنيا لم يعش طويلا "58 سنة" والشاعر الفيلسوف الذي كره الحياة وتمنى الموت عاش طويلا "87 سنة". وحين توفي ابن سينا في العام 429 هـ "1037م" كان المعري بلغ 67 سنة من عمره. فهذا هو القدر الذي جمعهما في عصر واحد ولم يجتمعا أبدا نظرا لبعد المسافة آنذاك بين بلاد الشام "المعري" وبلاد فارس "ابن سينا" واختلاف البيئة الثقافية والاجتماعية واللغوية والنفسية. العصر ذاته إلا ان انعكاساته كانت مختلفة. فالطبيب الفيلسوف استقبل الدينا ومصاعبها بعقل منفتح واستعداد نفسي للمواجهة وتقبل الخسائر والأرباح. بينما الشاعر الفيلسوف استقبل الدنيا بسلبية وعزلة قاتلة طبعت قرابة نصف قرن من حياته. عصر المعري هو عصر ابن سينا مع فارق نسبي في ظروف المكان والزمان والبيئة القبلية - الثقافية. فابن سينا فارسي من فارس، والمعري عربي من قبيلة مسيحية نزحت إلى بلاد الشام من الحيرة وتموضعت في منطقة تقع بين حماة وحلب، واعتنقت الإسلام في مطلع عصر الخلافة العباسية وتحديدا في عهد الخليفة المهدي "ابن أبي جعفر المنصور". الأصل القبلي ومكان الولادة واختلاف الظروف الشخصية لكل من المعري وابن سينا كلها عوامل لعبت دورها في رسم شخصية مختلفة عن الآخر. فابن سينا جاء من عائلة مرفهة اجتماعيا ووالده رجل دولة أصاب الكثير من المال والعلاقات فكان عنده من الوقت والمقدرة على الاهتمام بابنه والعناية بتربيته وتخصيص أفضل العلماء لتدرسيه. بينما المعري جاء من عائلة متواضعة اجتماعيا ومتدينة، فجد المعري كان قاضيا في معرة النعمان "مسقط رأسه". والمعري لم يلق في طفولته تلك الحظوة التي لقيها ابن سينا. فحظ المعري كان عاثرا منذ طفولته حين أصيب بمرض الجدري وهو في الثالثة من عمره فتشوه وجهه وبدا يفقد بصره رويدا إلى أن تلاشى النور من عينيه وهو في الرابعة من عمره. دخل المعري الظلمة في وقت كان ابن سينا يبصر النور ويرى الدنيا ويتمتع بها في كنف أسرة حرصت على تربية طفلها والعناية به. فالزمن واحد إلا ان انعكاسات نور الزمان اختلفت بين طبيب شاب اكتشف الحياة وشيخ ضرير ضاقت به الدنيا حتى ضاق بنفسه وتمنى الموت ولم ينله إلا بعد وقت طويل. الفارق بين الشخصيتين يمتد على مسافة طويلة. والاختلاف بينهما يعود إلى اختلاف حظهما. فابن سينا كان الحظ إلى جانبه في معظم الأوقات، بينما جانب الحظ المعري مرارا وفي معظم الأحيان. وهذا ما عزز نسبة الاختلاف في كيفية استقبال المعري لحوادث عصره عن اسلوب ابن سينا في استقبال الأنباء نفسها. فالعصر واحد وانعكاساته مختلفة. فالمكان "الجغرافيا" اختلف، والحال اختلف بين ضرير ساح وجال وتنقل وانعزل وابن عائلة مرفهة كسب العلم والمال والجاه والمعرفة والوزارة، ولكنه لم يغادر بلاد فارس مرة في حياته حتى انه لم يحاول زيارة عاصمة الخلافة، بينما زار الضرير بغداد مرتين متتاليتين. هذا التشابه والاختلاف يفسر إلى حد كبير التفاوت بين نظرة ابن سينا إلى الدنيا والدين والوجود والحياة والإنسان والسعادة وبين نظرة المعري لكل هذه القضايا. وعلى رغم الاختلاف في اسلوب التعاطي مع قضايا العصر بين الطبيب والشاعر هناك الكثير من التشابه في القراءة. فالانعكاسات المتصلة بالبيئة الثقافية/ السياسية كانت مختلفة،إلا أن تأثيراتها العامة نجد فيها الكثير من التشابه. فالأجواء السياسية واحدة "أسرة بني بويه في بغداد، وبروز الدعوة الفاطمية وقيام دولتها في مصر" والأجواء المذهبية واحدة "ظهور رسائل اخوان الصفا وبروز الحركة الاسماعيلية بعد انقسام المدرسة الشيعية إلى تيارين"، والأجواء الثقافية واحدة "هيمنة الفلسفة على نخبة من ذاك الجيل وسيادة الفكر المنقول والمترجم عن أدبيات فارسية ويونانية وهندية". هذه الأجواء المشتركة عايشها المعري عن قرب حين تنقل بين مدن بلاد الشام وبغداد، بينما عاشها ابن سينا عن بعد، لذلك كان تأثيرها السلبي أقوى على المعري نظرا لاختلاف ظروفه الشخصية وتداخل عناصر متعددة رسمت شخصية شاعر فيلسوف يعيش ظلمة النظر ونور العقل. وبين الظلمة والنور تأسست نزعة متشائمة تميل إلى النزق والقنوط ولا تتردد في البوح بكل جرأة بما تحتقن به النفس. الجانب المظلم في شخصية المعري شكل تلك الرافعة الخفية لنمو شخصية مضيئة تشع بالعلم والمعرفة ولكنها ترى الدنيا في ضوء الظلام الذي يخيم على حياة طفل شب في وسط عصر مضطرب تسوده المنازعات والانقسامات. سبقت ولادة المعري الكثير من التطورات السياسية وهي في النهاية أسست لمناخات ثقافية كان لابد لها من ان تنعكس على الطفل/ الضرير. فمثلا دخل البيزنطيون "الروم" مدينة انطاكيا ودمروا معالمها الإسلامية في العام 359هـ "969م". وفي السنة نفسها نجح الفاطميون في بناء مدينة القاهرة وقام قائدهم العسكري جوهر الصقلي بانتزاع بلاد الشام من بقايا الدولة الاخشيدية. وفي تلك السنة أيضا "359هـ" اشتد النزاع القبلي في المغرب بين قبيلة صنهاجة "المؤيدة للفاطميين" وقبيلة زناتة. هذه الاجواء السياسية التي أحاطت ببلاد المسلمين تركت بصماتها الثقافية وشجعت على ظهور حركات سياسية متطرفة ونزعات مذهبية اختلفت في منهجيتها الفقهية عن المدارس السنية والشيعية. ففي مصر مثلا عمد الفاطميون إلى تأسيس منارات فكرية بعيدا عن مظلة الخلافة العباسية فتأسس الازهر الشريف في العام 361هـ "973م" في وقت اشتد الصراع على الشام بين القرامطة والفاطميين في العام 362هـ "974م" حين حاولت الحركة القرمطية اجتياح بلاد الشام وضم دمشق والقدس إلى مناطق نفوذهم. وفي هذه السنة "362هـ" ولد أحمد بن عبدالله بن سليمان بن محمد التنوخي في معرة النعمان. ضمن هذه الاجواء المشحونة عاش الطفل الضرير حياة صعبة أسست لاحقا تلك الشخصية العصبية المزاج والسلبية تجاه الدنيا والحياة. والنظرة السلبية لم تكن دائما سلبية فهي أنتجت ثروة فكرية وشعرية اتسمت بالحكمة من جهة وبقوة المخيلة من جهة أخرى. فالشاعر الفيلسوف قرأ الفلسفة شعرا ونثر المخيلة في نصوص فلسفية كان لها اثرها وتأثيرها على الشعر/ الفكر الأوروبي في عصر النهضة. سلبية المعري كانت نقدية ومتطرفة في رؤيتها للعالم الا انها أعطت صورة أخرى عن واقع اختلفت الرؤى في النظرة اليه. فنظرة المعري كانت مظلمة في جانب ومشعة في جانب آخر. وهنا بالضبط تكمن خصوصية الشاعر/ الفيلسوف واختلافه عن الطبيب/ الفيلسوف

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 945 - الخميس 07 أبريل 2005م الموافق 27 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً