ثلاثة تلاميذ صغار لم يتجاوزوا الثامنة من العمر يقفون على سور مدرسة ابتدائية يملون اعينهم بمنظر البحر وصغار السمك. يسأل أحد الصغار: ترى أين هو الخليج العربي؟ يجيب الآخران: هذا البحر الذي أمامك هو الخليج، البحر الذي تلطم امواجه مدرستنا وتطل صفوفنا عليه ونلهو في أمواجه في الصيف. أجاب الصغير يسأل: معقول... هذا هو الخليج الذي نشاهده في الخرائط؟ المسافة بين الكتاب وما حولنا؟ بعبارة اخرى: المسافة بين ما نقرأه في الكتب والواقع المعاش؟ عقل الصغير كان مسكونا بهذه المسافة، والكتاب بالنسبة إلى تلميذ متفوق "كما هو الصغير صاحب السؤال" يبدو دوما عالما آخر، مثاليا ومقدسا على نحو ما وقد لا يمت لواقعنا بشكل مباشر. وعندما أعاد هذا الصغير مطالعة كتاب الجغرافيا مرة وأخرى ودقق في الخرائط، ادرك بلاشك ان البحر الذي يبلل فيه أقدامه ويصطاد فيه صغار السمك ولا يبعد عن بيته سوى دقائق هو حتما الخليج العربي. وفي تفخيم اضافي للصورة: ادرك موقعه تماما على الخريطة. أمازالت هذه المسافة قائمة وموجودة؟ المسها احيانا عندما اقوم بالمذاكرة مع الصغار او عندما اتلقى اسئلتهم. لكن هؤلاء سيكبرون وسيأتوننا فيما بعد بالاعاجيب. اما في عالم الكبار فان المسافة بين الكتاب والواقع هي المحنة التي مازلنا نتخبط فيها بجدارة تفوق الوصف. في الجدل الرائج والمناظرات يسمونها "النظرية والواقع"، "المثال او النموذج في مقابل الواقع"، وان نكون نحن شعبا قارئا مثلما يحلو ان نصف انفسنا مرارا، فليس من علامة تثير القلق عندما يخوض الناس جدلهم حول شئونهم العامة سوى كثرة الاستشهادات بما يقوله هذا الكتاب أو ذاك. حتى اليوم، مازالت المسافة قائمة بين الكتاب والواقع المعاش. نتصدى لقضايانا مستلهمين ما في الكتب والنظريات وربما نماذج قائمة في مجتمعات اخرى واحيانا مقولات شائعة، هذا قد لا يكون خطأ بالمطلق، بل إذا ما احسنا فهمه فقد يكون محفزا للخيال. والخيال الذي نحتاجه هو ذلك المزيج من الذكاء العملي والجرأة الذي بامكانه ان يحول ما في الكتب او المثال او خبرات مجتمعات اخرى الى واقع حي وملموس لكن ذو خصوصية محلية. طريقتنا في التعاطي مع قضايانا تدفع دوما للاحساس بأننا نحتاج الى "كتيب ارشادات" للعمل تماما مثلما يحتاج إلى تشغيل أي جهاز. هل تحتاج الديمقراطية لكتيب ارشادات؟ هل هي وصفة جاهزة؟ تعرفون الجواب قطعا، ولانها ليست كذلك، فهي تبنى بالتدرج والمراجعات المستمرة والنقد والقدرة على تصحيح الاختلالات. لكن هذه لا تعبر بالنهاية سوى عن الدوافع التي تحدونا ونحن نتصدى للعمل العام في كل اشكاله وقضاياه، فهل نملك شيئا من هذا؟ اثير هذه الاسئلة لانني اعتقد ان ثمة جزءا مهملا في ممارستنا المستجدة للديمقراطية، فالفارق سيبقى كبيرا بين ان نقرأ عن الديمقراطية والتجارب الديمقراطية وبين ان نتمثلها ونمارسها او ان نخلق تجربتنا الديمقراطية الخاصة. الصورة ليست ذات لون واحد، وثمة من المؤشرات ما يجعل المرء يطمئن الى ان ارهاصات التغيير موجودة وقائمة. وبالنسبة إلي فإن هذا، قد يعني ان مهمة اساسية من مهماتنا في هذه المرحلة هي اشاعة الديمقراطية. ثمة اختزال للديمقراطية لدينا يقصرها على الميدان السياسي فقط، وهذا مفهوم قاصر لانه يجعلها حكرا على نخبة. حقوق الانسان نفسها لاتزال في اذهان الكثيرين قاصرة عن الشمول لانها مرتبطة لديهم فقط بالحقوق السياسية وحرية التعبير. وفي اذهان الكثيرين فان الديمقراطية واشاعتها وتطبيقها والسهر عليها ليس سوى مهمة من مهمات الحكومة. هذا صحيح، لكنه سيبقى فهما قاصرا لانه قد يقود الى مفارقة: حكومة ديمقراطية ومجتمع غير ديمقراطي، اقله على مستوى الجدل. وهذه المفارقة تبدو الاستدراك والتنبيه الضروري للمهمة التي اعتقد ان على كل من الحكومة والنخب والناشطين ان يتحملوها: دمقرطة المجتمع. تلك المفردتان تعني ان اختزال الديمقراطية في السياسة فحسب وفي برلمان منتخب وحسب وبضع جمعيات سياسية ناشطة وحسب هو الخطأ الذي علينا تحاشي الوقوع في حبائله. وان تحظى بحياة سياسية قائمة على التعددية فهذا لن يعني ان الديمقراطية شائعة ومترسخة او انها تنمو في افضل الاحوال. حتى ضمن هذه الصورة، فان ثمة استعدادا للنكوص يعبر عن نفسه من حين لآخر بشكل واضح وجلي سواء في قوانين مقيدة للحريات او في الانحراف الذي يتبدى في ممارسة الديمقراطية نفسها عبر طأفنتها. الاشجار لا تنمو من فوق، بل من الاسفل، من القاع من التربة الى اعلى. واذا كانت التربة غير صالحة فان الشجرة لن تنمو. هناك الطحالب والاعشاب الضارة والحشرات التي يتعين إزالتها. وهناك الحرث والتسميد والماء، هكذا تنمو الديمقراطية وليس علينا سوى تهيئة تربتها، أي مجتمع بأكمله. إشاعة الديمقراطية فيه. هنا يتعين علينا إدراك المسافة الفاصلة بين الكتب، المثال، النموذج وبين الواقع المعاش. الادراك الضروري لجعل تجربتنا تجربة تملك خصوصيتها وتنمو دونما ازمات تردنا الى تلك الصيحة الشهيرة: المطلوب شيء والواقع شيء آخر
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 942 - الإثنين 04 أبريل 2005م الموافق 24 صفر 1426هـ