من المتوقع والطبيعي أيضاً أن يثير كل ما تقدم، العديد من الأسئلة في ذهنية القارئ الكريم، لكن الأكثر إلحاحاً وأهمية هو السؤال: لماذا نما وتطور نظام الخير والإحسان، وبهذا المستوى والحجم، عندهم فقط، وليس عندنا؟
الإجابة على مثل هذا السؤال صعبة ومعقدة في آنٍ، لكن يمكن أن نوجز أهم الأسباب في النقاط التالية:
1. مستوى الثراء المالي الضخم الذي تتمتع به نسبة لا يستهان بها من أفراد المجتمع الغربي على صعيدي الحجم والعدد. ففي الولايات المتحدة وحدها فقط، هناك ما يزيد على 400 مليونير.
كما يتصدر الأميركان، سنوياً، لائحة أول عشرة مليونير في العالم، كما يحظون أيضاً بحصة الأسد في قائمة أول 100 ثري فيه. يتلوهم في الصدارة الأوروبيون.
هذا يعني أن الغرب، ولأسباب تاريخية، يعود البعض منها إلى الحقبات الاستعمارية، يشكل اليوم الطبقة الأكثر غنى على الصعيد العالمي. يضاعف من أهمية هذا الثراء على المستوى الاقتصادي، كونه ليس مجرد أموال نقدية سائلة، بل موجودات منتجة، يُنفق جزء منها على التطوير والإبداع، الأمر الذي يمكن الغرب من التقدم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
من الطبيعي هنا أن يولد هذا الثراء الذي يقترب من التخمة نوعاً من الذهنية «الإنفاقية»، التي إما أن تذهب في الصرف على اقتناء الكماليات والسلع الاستهلاكية، كما هو الحال عندنا نحن العرب، أو تسخر لمشروعات تنموية، بما فيها تلك التي تغذيها رساميل القطاع الخاص، وهو ما نشاهده اليوم في الغرب، دون نفي وجود مثل تلك النزعة الاستهلاكية في صفوف البعض منهم.
2. طبيعة النظام الاقتصادي/ السياسي المتقدم المعمول به عندهم.
لقد طور الغرب، عبر مسيرة زمنية طويلة، نظاماً سياسياً واقتصادياً راسخاً ومرناً على حد سواء. يتمظهر رسوخه في قدرته الاستمرار والصمود في وجه الأعاصير التي هبت عليه، برياحها الداخلية والخارجية، وتتجسد مرونته، في نجاحه في التأقلم مع الكثير من المستجدات التي استمد منها مقومات نموه وتطوره. عمود خيمة هذا النظام الآلية الضريبية التي، رغم كل ما يقال حولها، تحدُّ من الكنز اللامحدود للثروات، وتشجع، ومن خلال قنوات «الإحسان» التي تناولها المقال، على توجيه نسبة لا بأس بها من تلك الثروات، في الاتجاه السليم، ونحو الطريق الصحيحة، وعبر القنوات المضمونة العواقب.
لقد دفع النظام الضريبي المعمول به في الغرب الأغنياء إلى التبرع بنسبة لا يستهان بها من ثرواتهم، بلغت النصف في مبادرة غيتس – بافيت التي تحدثنا عنها، خشية فقدانها في هيئة ضريبة لدولهم. أدى ذلك إلى أن يساهموا، من خلال تلك تحاشي نسبة معينة من تلك الضرائب، وتجييرها لأعمال الإحسان، في تحمل كلفة تشييد البنية التحتية أولاً، ثم عادوا وشاركوا في الارتقاء بأداء مؤسسات البنية الفوقية، بما فيها الجامعات ومراكز البحوث ثانياً.
لقد فضل أولئك الأغنياء تخصيص نسبة من أرباحهم للصرف على مشروعات داخلية ذات أبعاد اجتماعية وتنموية، على دفعها في هيئة ضرائب للدولة. حقق ذلك النمط من المشاركة في تحمل الأكلاف، الربح للطرفين: الدولة والمحسن. فقد أزيل من على كاهل الأولى عبء التحمل المنفرد لمشروعات تطوير المجتمع، وكسب الثاني نفوذاً سياسياً مكنه أيضاً من ينعم بالكثير مما يحتاجه من خدمات معيشية راقية ومتطورة.
3. الذهنية التي تحكم سلوك المواطنين، والأثرياء منهم على وجه الخصوص، في علاقتهم بالدولة، التي لم يعودوا يعتمدون عليها كلية في تأمين الخدمات التي يحتاجونها، وتحولت الذهنية، بفضل ذلك النظام، إلى شعور بالمسؤولية المشتركة من جانب، وحق مكتسب ليس هناك، بما في ذلك الدولة، من يجرؤ على تجريدهم منه من جانب آخر. فأصبح هؤلاء الأثرياء يؤمنون بأن القيام بذلك هي مسؤولية مشتركة، عليهم أن يتحملوا حصتهم فيها. لم تعد الدولة، هناك، بخلاف ما هي عليه عندنا، تتحمل مسؤولية كل شيء، والمواطنون، وخاصة الأثرياء منهم، يتمتعون بكل شيء. لذا شاهدنا المواطن الثري الغربي يبني ويدير ويطور مشروعاته أو برامجه التي يحتاجها. وفي قطاع التعليم على سبيل المثال لا الحصر، بنى أثرياء أميركا جامعاتهم الخاصة التي أنشأوها، بآلية لا تتوخى الربح، والبعض، منها مثل «هارفرد» و»إم آي تي»، بز نظيراته من المؤسسات الحكومية، وأصبح علماً من أعلام العمل الأكاديمي.
ولا يقتصر الأمر هنا على حقل التعليم، فهناك الميدان الصحي، والبريد وخطوط المواصلات... إلخ.
ومن الضرورة بمكان التمييز هنا بين المؤسسات الخاصة التي لا تتوخى الربحية، والأخرى التي تسعى لجني الأرباح. فبينما تعيد الأولى ضخ ما تحققه من أرباح في موجوداتها، كي تكون قادرة على أداء وظائفها، نجد الثانية توزع مكاسبها على ملكة الأسهم فيها، والذين يجنون جراء ذلك الأرباح الطائلة من وراء تشغيلها. لسنا هنا في مجال المقارنة بين النمطين، بقدر ما حاولنا التمييز بين شكلين من أشكال أنشطة القطاع الخاص، لكل منهما شروطه الخاصة وقوانينه التي تسير آليات أدائه لوظائفه، وطرق توزيع أرباحه، مع ضرورة التنويه إلى أن النمط الأول هو الذي يقود إلى طريق الإحسان.
ينبغي التمييز مرة أخرى هنا بين «الالتزام الفردي» أو حتى العفوي/ العشوائي للإحسان، وبين ذلك الجماعي المؤسساتي. ودون التقليل من أهمية الأول لكنه يبقى محصوراً بالفرد الذي بادر له، ومن ثم فهناك احتمال كبير بتوقفه في حال غياب ذلك الفرد، ولأي سبب من الأسباب، ناهيك عن تخبط إدارة ذلك الإحسان، واحتمال سوء إدارة أوجه إنفاقه.
مقابل ذلك يحمل النوع الثاني مقومات النجاح والاستمرار والتطور في أحشائه، وبالتالي فإن فرصته للاستمرار أقوى، واحتمالات نموه أفضل حظاً.
في ضوء كل ذلك، لماذا نفتقد، وقد أصمّت آذاننا، مقولاتنا التي لا تكفّ عن تكرار أننا أبناء حضارة تدعو «للبر والإحسان»، وتحث على أعمال الخير، إلى مثل هذه المؤسسات العريقة ـ التي لا توجه تلك الأموال نحو الطرق الصحيحة فحسب، وإنما تضمن أيضاً «مأسسة» خطوط سيرها، وقنوات إنفاقها، وسبل تنمية مواردها، وتطوير أعمالها. ولربما آن الأوان أن تبادر مجموعة رائدة، وتحب الصالح العام، من مجتمع الأعمال البحريني، وتدرس التجارب الغربية الناجحة في ميدان الإحسان، وتحاول نقلها إلى البحرين، بعد إجراء التعديلات الضرورية عليها كي تأتي ملائمة لظروف المجتمع البحريني، وربما تكون لها الريادة على المستوى العربي
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2893 - السبت 07 أغسطس 2010م الموافق 26 شعبان 1431هـ
مرزوق
عورت قلبي من الصبح بذكر الجامعات الخاصة ،
هنا أنشأ ( أو إستجلب ) أحدهم إحدى الجامعات الماصة لكي يمص ما تبقى من مدخرات ( وفي كثير من الأحيان قروض يستلفها أولياء الأمور ) الناس و يزداد هو تخمة و ثراء . و ياليتها جامعة ذات مستوى و تسوى شي .