لكل مقدمة خاتمة. وأفضل شخصية أوروبية تساعد على ترتيب نهاية معقولة ومقبولة لتلك الخلاصات النظرية التي توصلت إليها «النخبة الأوروبية» في تطورها الذاتي خلال القرن العشرين يحتل برتراند راسل الموقع الأول في الاختيار.
لماذا راسل على رغم أن أوروبا عرفت في حينها طفرة من المفكرين في مطلع القرن حتى نهايته. فالقارة التي عاشت تحولات عاصفة أنتجت «نخبة» حاولت التكيف مع المتغيرات الدراماتيكية من جانب وقراءة تلك التطورات بمنهجية معاصرة من جانب. فرانسيس برادلي (1846 - 1924) تناول تلك المستجدات من موقع الهيغلية منتقداً فلسفة كانط وأفكار جون ستيوارت مل ما ترك تأثيره على أعمال راسل وجورج مور المبكرة. غوتلب فريج (1848 - 1925) الذي كان على صلة عمل مع راسل أحدث نقلة نوعية في الفلسفة الغربية حين أنعش دور منطق الحسابات الرياضية في تكوين منهج التفكير المعاصر منذ أيام ديكارت في كتاب أصدره العام 1884 محاولاً تأسيس منهج رياضي في فلسفة اللغة. مورتز شيلك (1882 - 1936) الذي ولد في برلين اشتغل في جامعة فيينا محاولاً مع حلقة من الأصدقاء تأسيس تيار يستعيد دور المنطق والحسابات الرياضية ولكن مشروعه أصيب بضربة حين قتله أحد تلامذته في الجامعة. أدمون هسيرل (1859 - 1939) اشتغل أيضاً على المنطق وعلم الرياضيات معتمداً على أعمال فريج ما ترك تأثيره على التيار الوجودي وفلسفة هيدغر وسارتر. هنري برغسون (1859 - 1941) ساهم في تطوير المقولات التي تتحدث عن روح قوة العقل وانعزالها عن المادة معتبراً أنها الملاذ الواقعي للحرية الإنسانية، وتأثر به الفيلسوف الأميركي بيرس حين كان يكتب أوراقه عن البراغماتية. لودينغ ويتغينستن (1889 - 1951) ألف في حياته الفلسفية أكثر من رأي خلال تجواله بين فيينا وبرلين وبريطانيا، وحين توفي في كامبردج ترك مجموعة ملاحظات في كتابين «الأزرق» و«البني» تحدث فيهما عن معنى الزمن وتأثيره على العقل ونشاط الإنسان ما أثار اهتمام راسل في فترة عمله المؤقت معه. جورج إدوارد مور (1873 - 1958) الذي ولد في لندن وارتبط اسمه براسل اشتغل على مفهوم القيم وتأثيرها في حياة العقل الإنساني، فأخذ بأفكاره مجموعة جامعيين وناشطين في الحقلين الاجتماعي والاقتصادي. رودولف كارنب (1891 - 1970) كان من «حلقة فيينا» التي تأسست برعاية شيلك وشكلت مجموعة من الباحثين في أصول الفلسفة والرياضيات (الحسابات) والعلوم والمنطق. مارتن هيدغر (1889 - 1976) تأثر في وجوديته بأستاذة هسيرل الذي أخذ بدوره عن فلسفة كيركيغارد. اخترع هيدغر الذي وُلد في ألمانيا مصطلحات جديدة في اللغة واستخدم مفردات صعبة في الكتابة ما أعطى فرصة ثمينة لانتعاش فلسفة وجودية «غامضة» أخذ بها سارتر. جان بول سارتر (1905 - 1980) الفيلسوف الوجودي الفرنسي كتب في الفلسفة (الوجود والعدم في العام 1943) وألف المسرحيات والروايات واشتغل في السياسة (تأثر بالحركة الطلابية في فرنسا) وأسس بالاشتراك مع راسل «المحكمة الدولية» لمطاردة مجرمي الحروب ومعاقبتهم. فهذا الفيلسوف والناشط السياسي والحقوقي لم يتردد في التطوع جندياً واعتقل في برلين خلال الحرب الثانية وتحول إلى منظر لثورة مايو/ أيار 1968 ما دفعه إلى الدمج بين وجودية حالمة وعبثية يسارية (انتقد الماركسية) ونشاطوية فأثر في جيله وتحول أحياناً إلى رمز للقوى التي تطالب بالتغيير والإطاحة بما هو قائم.
هؤلاء الرموز الذين أثروا في تطوير وعي «النخبة» المعاصرة في أوروبا والولايات المتحدة من بيرس وجيمس في أميركا إلى برادلي وفريج وهسيرل وبرغسون ومور وشيلك ويتغينستن وهيدغر وكارنب وسارتر في أوروبا كلهم عاصروا راسل أو كانوا على علاقة ما معه سواء في نشاطه الحقوقي والإنساني أو في مجاله الفلسفي أو في إطار عمله الجامعي. واختيار راسل للخاتمة يوجز الكثير من التبريرات والتفسيرات باعتبار أن الفيلسوف البريطاني تميز بمجموعة خصائص أعطته أفضلية معنوية يمكن تكثيفها بالنقاط الآتية: عمره الطويل (98 سنة) وحضوره الذهني ونشاطه الحقوقي حتى الأيام الثلاثة الأخيرة من حياته، عالميته (كونيته) واجتهاده ليكون فوق المؤسسات القومية، ناشط سياسي ومكافح ضد العنصرية، مناهض للحروب والتسلح والديكتاتورية، معارض للسباق النووي، رئيس المحكمة الدولية ضد الحروب ومعاقبة المجرمين، حاصل على جائزة نوبل (مخترع الديناميت).
كل هذه العناصر تجعل راسل في مقدمة جيله في اعتبار أن اسمه كان معاصراً أو حاضراً في حقول مختلفة، وكان آخر عمل نشاطي قام به قبل وفاته بأيام توجيه رسالة سلام إلى مؤتمر برلماني كان يعقد في القاهرة بشأن الحرب العربية - الإسرائيلية.
راسل ولد في العام 1872 قبل سنة من رحيل صديق والده الفيلسوف جون ستيوارت مل. والدته ابنة اللورد ستانلي، والده ابن اللورد جون راسل. وحين توفي والده وهو طفل في الرابعة من عمره أشرف جده على تربيته ثم تكفلت جدته برعايته بعد رحيل جده إلى أن نجح في الحصول على منحة مدرسية للدخول إلى جامعة كامبردج.
راسل ولد في سبعينات القرن التاسع عشر (قضى فيه 28 سنة) ومات في سبعينات القرن العشرين (قضى فيه 70 سنة) ما أعطاه فرصة للتعرف والتخاطب مع عالم يتغير ويتقاتل ويتسابق على اختراع أدوات الدمار الذاتي. وأهمية راسل الفيلسوف أنه لم يصنف نفسه فلسفياً (لم يتبع مدرسة بعينها) ولم يؤسس فلسفة خاصة به لها أتباعها وأنصارها، وإنما بنى فلسفته (مستخدماً أسلوب ليبنتز) على عينات من روافد الفكر الأوروبي ما وفر له حرية الحياد والتعامل الإيجابي (الحرفي/ المهني) مع أصحابه أو خصومه، ومهّد الطريق لتحطيم صنمية الفلسفة الكلاسيكية. وهذه الميزات مضافة إلى العمر الطويل (نحو قرن من الزمن) ومشاطرته بين القرنين التاسع عشر والعشرين أعطته صفات عززت موقعه المستقل وطورت شجاعته ( رئيس المحكمة الدولية) لخوض معارك على مستويات عالية وحقول بعيدة عن ميدان الفلسفة.
راسل يقع أصلاً خارج السياق التاريخي للبحث، ولكن بما أنه أقدم في العام 1945 على تأليف كتاب ضخم عن «تاريخ الفلسفة الغربية» كان له تأثيره في رصد حلقات التتابع الزمني لتطور الفكر الأوروبي من حقبة اليونان إلى أيامه وما رافقها من حروب وكوارث وإنجازات. وبسبب هذا الكتاب أصبح دخوله في إطار السلسلة ضرورة.
ميزة هذا الكتاب التأريخي للفلسفة أنه صدر بعد فجوة زمنية بينه وبين محاولة هيغل خوض هذا المضمار ما أعطاه خصوصية في مجاله البحثي. هيغل حين ألقى محاضراته الجامعية على الطلبة (رؤوس أقلام ومقتطفات) أشار إلى مصادره وقال إنها لا تتجاوز ثمانية مراجع وثلاثة بحوث تسنى له الاطلاع عليها لجمع معلوماته وخامات مواد بحثه (التشريح والتفسير والنقد) للبدء في مشروعه الكبير الذي طاول «تاريخ الفلسفة» و«فلسفة التاريخ». بعد هيغل لم تصدر محاولة شاملة أخرى وإنما مجموعات من المقالات والدراسات والبحوث اشتملت على سرد تاريخي أو مداخل نقدية لمشكلات الفلسفة ومدارسها، إلى أن جاء راسل ونقب في هذا المجال البحثي ليسرد التاريخ الطويل للنخبة الأوروبية من عصر اليونان إلى زمنه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2891 - الخميس 05 أغسطس 2010م الموافق 23 شعبان 1431هـ