الفترة الهلنستية في الخليج العربي تغطي الفترة الواقعة بين 325 قبل الميلاد وحتى قدوم الإسلام في 630 ميلادية وقد تزيد أو تنقص في بعض الأماكن. وفي جزر البحرين تسمى الفترة الهلنستية بفترة تايلوس أو الفترة V (أي الفترة الخامسة) لأنها تتزامن مع الطبقة الآثارية التي توجد في موقع رأس القلعة والتي سميت «المدينة الخامسة». هناك أكثر من تقسيم لكننا سنتناول هنا تقسيمين: الأول يوضح التأثيرات الأجنبية والثاني يمثل السيطرة السياسية على جزر البحرين.
سبق وان ذكرنا في الفصل السابق أن مواقع الحقبة الهلنستية منتشرة في مواقع مختلفة في جزر البحرين وليست حصرية على راس القلعة, وقد أوضحت الدراسات التي أجريت على اللقى الأثرية التي عثر عليها في هذه المواقع تبايناً واضحاً بين هذه المواقع. وفي كل موقع من تلك المواقع تم العثور على لقى تدل على عدة تأثيرات, فهناك فخار محلي والفخار الذي عرف بالعربي وهو أيضاً فخار محلي انتشر في الجزيرة العربية ومنه انتشر لجزر البحرين, بالإضافة لذلك هناك لقى تدل على تأثيرات أجنبية من خارج شبه الجزيرة العربية وهي ثلاثة تأثيرات أساسية: السلوقي والبارثي (أو الفرثي) والساساني, أي تأثير يوناني مصدره السلوقيين وكذلك الكراسينيين والذين اعتبروا كامتداد للسلوقيين وهناك التأثير الفارسي المتمثل في الدولة البارثية والدولة الساسانية. وقد قام جان فرانسواز سال (Salles 1987) بتقسيم حقبة تايلوس على أساس اللقى وأوضح مدى تأثير التأثيرات السابقة (انظر جدول رقم 1), وقد استنتج سال ثلاث نتائج هي:
1 - أن التأثير السلوقي واضح جداً سواء في موقع راس القلعة أو القبور الهلنستية المنتشرة في جزر البحرين.
2 - أن التأثير البارثي والساساني واضح أكثر في القبور وغير ممثل في رأس القلعة.
3 - التأثير الساساني نادر الوجود في البحرين بصورة عامة.
سيطرت ست قوى سياسية على جزر البحرين والمناطق المجاورة لها أثناء الحقبة الهلنستية هي: السلوقية اليونانية والكراسينية اليونانية والبارثية الفارسية والساسسانية الفارسية ودولة الحيرة العربية ودولة كندة العربية (انظر الجدول رقم 2), وسوف نتناول تلك القوى بشيء من التفصيل في الفصول القادمة.
خصت جزر البحرين في الفترة الهلنستية بمجموعة من الأسماء, بدءاً بتايلوس وانتهاءً بأوال. وقد تم مناقشة تلك الأسماء في بحوث متفرقة وسنحاول هنا أن نحدد تلك الأسماء ونبين اللبس الحاصل فيها.
تايلوس (Tylos) هو الاسم الذي أعطاه اليونانيون لجزيرة البحرين الكبرى وهذا ثابت بالدليل القاطع حيث تم العثور على نقش عليه اسم «تايلوس» يعود تاريخه للفترة (142ق. م – 115ق. م) وسنناقشه بالتفصيل في الفصول القادمة لما له من أهمية (Gatier et al 2002). ويعتقد أن اسم تايلوس بقي حتى القرن الثاني بعد الميلاد عندما ذكره بطليموس Ptolemy (90م – 168م) في كتابه الجغرافيا. لكن مصادر هذا الكتاب الجغرافي تكاد تكون بالتأكيد مستقاة من أندروسثين (أحد قواد الأسكندر للبعثة الاستكشافية في الخليج العربي) التي جرى تعديلها قليلاً من قبل الملك الكاتب جوبا ملك موريتانيا. وقد بقي الاسم تايلوس مرتبطاً بجزر البحرين بالنسبة لبعض الرحالة الأوروبيين إلى حوالي القرن السابع عشر الميلادي حيث كانوا يرسمون البحرين على خرائطهم ويطلقون عليها اسم تايلوس.
أما أرادوس (Arados) فهو الاسم الذي كان يطلق على جزيرة واقعة تحت الجرهاء (أو الجرعاء) في الخليج العربي وقد وردت عند عدد من الكتاب اليونانيين من مثل سترابو Strabo، وكلوديوس بطلميوس وستيفن البيزنطي, وقد تم تحديد هذه الجزيرة بجزيرة المحرق الحالية. ويرى البعض أنه ربما كان أقدم إِشارة لاسم أرادوس كان في مقطع يرد عند أونيزيكريتس Onesicritus يتعلق برحلة نيارخوس Nearchus, وقد اقتبسه بليني بطريقة غير مباشرة عن جوبا ويرد في المقطع اسم لجزيرة تسمى أثروترادس Athrotradus ويعتقد أنه اسم جزيرة أرادوس (بوتس 2003, ج2 ص 832).
ينفرد الكاتب اليوناني سترابو Strabo (63 ق. م. – 23 م) مؤلف كتاب الجغرافية والذي يقع في سبعة عشر كتاباً بذكر اسم تايلوس محرفاً فقد ذكره بالراء بدلاً من اللام أي «تايروس» وذكر معه أيضاً الاسم أرادوس وذلك في الكتاب السادس عشر حيث يقول:
«إٍذا أبحرنا إٍلى ما هو أبعد، نصل إٍلى جزيرتين أخريين، أقصد تايروس وأرادوس، توجد فيهما معابد مثل معابد الفينيقيين. ويؤكّد أهالي الجزيرتين في الحد الأدنى، أن جزر الفينيقيين ومدنهم، التي تحمل الاسم ذاته هي مستوطناتهم الخاصة ذاتها (جغرفية 4/3/16) (بوتس 2003, ج2 ص 852)
ليس من قبيل الصدفة أن يذكر سترابو اسم تايلوس محرفاً فالبعض يرى أنه أدخل صيغة مختلفة لاسم تايلوس وجعلها «تايروس» وذلك لربط الجزيرتين بالمدن الفينيقية في لبنان وسورية، حيث يوجد في لبنان مستوطنة فينيقية أطلق عليها اليونانيون اسم «تايروس» وقد بقي هذا الاسم حتى يومنا هذا مختزلاً في الاسم Tyre اما اسم هذه المدينة بالعربي فهو «صور», وكذلك يوجد على الساحل السوري جزيرة كانت مستوطنة فينيقية أيضاً ويسميها اليونانيون «أرادوس» وهو الاسم الذي بقي حتى يومنا هذا مختزلاً في صيغة Arvad أو Rouad وتسمى بالعربي «أرواد» (Bowersoock 1986). وبذا أحيا سترابو قضية طرحها قبله هيروداتوس (484 ق. م. – 425 ق. م.)، تتضمن أن الفينيقيين يزعمون أن أصلهم من البحر الأرثري (أو البحر الأحمر وهو اسم الخليج العربي عند اليونانيين)، قبل أن يهاجروا إلى البحر المتوسط مارين عبر بلاد الشام. وظلت هذه المقاطع مدة طويلة تسترعي انتباه الرحالة والآثاريين والمؤرخين (بوتس 2003, ج2 ص 852 - 872).
يلاحظ وجود تشابه بين الاسم تايلوس والاسم الأكثر قدما لجزر البحرين وهو دلمون أو تلمون. ويرجح أن الاسم تايلوس محرف من الاسم تلمون أو دلمون وقد شرح إِيلرز W. Eilers هذا التحول حديثاً وأشار إلى نموذج شائع في اختفاء «الميم» الملفوظة بالشفتين والاستعاضة عنها بـ «و», فافترض وجود «تيلوس» في الأصل. ويظهر استبدال الميم بالواو في الأسماء الآرامية المشتقة من الأكادية أيضاً, فاسم تايلوس أو تلمون بصيغته الآرامية هو تلون TLWN السريانية، ويسمى أهل تالون «تلوانيين» وهذا ثابت في تدمر وسنناقشه لاحقا (بوتس 2003, ج2 ص 834 - 835).
تالون أو تلون أو تاليون اسم ورد في المصادر السريانية وقد اقترح يوسف سمعان السمعاني الخبير في تاريخ المسيحيين النسطوريين العام 1725م وجوب اعتبار تالون تايلوس حيث يلاحظ وجود تقارب بينهما (بوتس 2003, ج2 ص 884).
وقد ذكر بيوكامب وروبين في بحثهما حول المسيحية النسطورية في البحرين أن تالون تعتبر من بين المواضع الخمسة المذكورة في رسالة يشوعياب الثالث ويعتقد انه يمثل كرسياً لأسقفية نسطورية في شرق الجزيرة العربية، ولكن اليقين ليس مطلقا في هذه الحالة، وغالباً ما يتحدث العلماء في العصر الحديث عنه بوصفه جزيرة، ولكن الحالات الثلاث المعروفة التي ورد فيها ذكر هذا الاسم لا تتيح لنا أن نحدد على وجه الدقة شيئا من هذا القبيل، فقد ظهرت مرة في السطر الأول لنص سرياني مبتور لا يمكننا أن نستخلص منه أي استنتاج يتعلق بطبيعة الموضع وخصائصه الجغرافية. كما أن وجودها ضمن الجزر والمواضع الصحراوية الخمسة لبيت قطريا التي ذكرها البطريرك لا تفيد شيئا من هذه الناحية، لأنها تظهر في المركز الثالث ما بين جزيرتين وموضعين صحراويين (Beaucamp and Robin 1983).
وجاء الذكر الثالث لهذا الاسم في رسالة البطريرك يشوعياب الأول (585/ 584م) إلى يعقوب أسقف داري (أي دارين) ويتضمن الإيضاحات الجغرافية التالية: «جزيرة داري (دري) بجوار تالون، بجوار موضع روحا يتبا Ruha Yatba» ، ويوحي هذا التعبير بأن تالون أهم وأشهر من دارين لأنها تستخدم للاستدلال على أماكن أخرى. واليوم يتيح لنا هذا التعبير بأن نبحث عن تالون وروحا في جوار جزيرة تاروت إلا أنه لم تجر مطابقة روحا بأي موضع جغرافي (بوتس 2003, ج2 ص 1030).
وقد وجد البعض تقارباً بين لفظة تالون وبين دوحة ظلوم الواقعة عند الساحل القريب من جزيرة تاروت والذي كان يكتب بحروف إنجليزية بصيغ مختلفة منها ثالوم ولكن ما عاد أحد يرجح هذا الرأي.
تم العثور على نقش من ضمن النقوش التي تعرف باسم «نقوش القوافل» في تدمر وقد ذكر فيه اسم أيارهاي وتم وصفه أنه «مرزبان التلوانيين». وينص النقش على أن تجار تدمر في سباسينوكاراكس Spasinou Charax عاصمة كاراسين نصبوا سنة 131 ميلادية تمثالاً في تدمر تكريماً لأيارهاي Iarhai بن نبوزبد Nebozabad وقد اتصف هذا النص باهمية بالغة لأنه حكى بان أيارهاي كان «مرزبان التلوانيين» عند ميردات ملك سباسينوكاراكس (بوتس 2003, ج2 ص 1030).
ويرى جان فرانسواز سال أن التلوانيون هم سكان تيلوّه أو تيلوس، وهو بوضوح اسم «تايلوس» بصيغته الآرامية (Salles 1999).
العدد 2890 - الأربعاء 04 أغسطس 2010م الموافق 22 شعبان 1431هـ