بعد أكثر من خمسة عشر عاماً من النقاش المحتدم والحاد والمداولات، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن المياه الصالحة للشرب وخدمة الصرف الصحي هي حق من حقوق الإنسان. ففي 28 يوليو/ تموز الماضي تم طرح مسودة القرار الذي تقدمت به الحكومة البوليفية للتصويت على الجمعية العامة، وصوتت لصالحه 122 دولة (منها الصين وروسيا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا)، وامتنعت 41 دولة عن التصويت (منها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكندا وأستراليا)، ولم تصوت أي دولة ضده. ويرجع ذلك إلى الوصول إلى صيغة توفيقية بين الدول المعارضة والمؤيدة تقضي بعدم إلزاميته.
وينص القرار على أن «الحصول على مياه آمنة ونظيفة وخدمات صرف صحي هي حق إنساني وخدمات أساسية للتمتع الكامل للحق في الحياة». ويعرب نص القرار الذي تم التصويت عليه عن «بالغ القلق من وجود نحو 884 مليون نسمة يفتقرون لمياه شرب آمنة، وأكثر من 2.6 مليار نسمة لا يحصلون على مرافق الصرف الصحي الأساسية على مستوى العالم.، وبأن ما يقرب من مليوني شخص يموتون كل عام من الأمراض الناجمة عن المياه غير المأمونة والصرف الصحي، ومعظمهم من الأطفال الصغار. كما يشير إلى تعهد قادة دول العالم في العام 2002 في قمة جوهانسبرغ للتنمية المستدامة حول أهداف الألفية الإنمائية بخفض عدد الذين لا يحصلون على مياه آمنة وصرف صحي إلى النصف بحلول العام 2015. ويحث القرار الدول والمنظمات الدولية إلى تقديم المساعدة المالية والتكنولوجية لمساعدة البلدان النامية على مضاعفة الجهود الرامية إلى توفير مياه شرب آمنة ونظيفة متاحة وميسرة ومرافق صرف صحي للجميع.
ويشير المراقبون إلى أن معارضة/امتناع بعض الدول عن التصويت، ومعظمها من الدول المتقدمة الغنية، نابع من تخوف هذه الدول من مطالبتها من قبل المجتمع الدولي بدفع فاتورة تكاليف هذا القرار للدول النامية، بينما بالنسبة لحكومات الدول النامية التي امتنعت عن التصويت فهي متخوفة من أن القرار سيتم استخدامه من قبل شعوبها كأداة ضدها في حال عدم تمكنها من تحقيق ما ينص عليه القرار لمواطنيها. ويوجد بالإضافة لذلك، رأي ثالث لدول ترى أن هذا القرار سيحرمها من الحق في بيع المياه سواء لمواطنيها أو للدول المجاورة، مثل حكومة كندا، التي تريد حق تصدير وبيع المياه بكميات ضخمة إلى الولايات المتحدة الأميركية ضمن اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا، والتعامل مع المياه على أنها سلعة تجارية.
من جهة أخرى استقبل هذا القرار من قبل العديد من الناشطين في مجال حقوق الإنسان والمياه والبيئة بكثير من الترحيب والارتياح، وأعتبره العديد منهم ، وبالرغم من كونه غير ملزم، بأنه خطوة في الطريق نحو تحويله إلى قانون ملزم، وبأنه سيؤدي إلى حراك نشط حول العالم وسُيمكن مجموعات المجتمع المحلي بأن تناضل من أجل حقوق المياه والعدالة في الحصول عليها سواء ضد الحكومات أو الشركات متعددة الجنسيات التي لا تحترم هذه الحقوق.
الجدير بالذكر انه في العام 2008 تم تقديم قرار مشابه للجمعية العامة للأمم المتحدة، وتم رفض القرار وتعديله بعد إلغاء الفقرات التي تدعو لاعتبار الحصول على مياه الشرب الآمنة وخدمات الصرف الصحي كحق من حقوق الإنسان، كما ألغيت فقرة من القرار تدعو إلى إنشاء جهة عالمية رقابية لتبحث في الموضوع، واستبدلت بتعيين استشاري مستقل للوصول إلى مقترحات حول هذا الموضوع خلال ثلاث سنوات والقيام بمتابعة هذا الموضوع مع مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وتم تعيين هذا الاستشاري (المحامية كاترينا دي ألبكركي، من البرتغال). وفيما رأت بعض الدول بأن القرار يتعارض مع عمل الاستشارية وعملية جنيف وبأنها لم تنهي عملها بعد، رأت العديد من الدول بأن عمل الاستشارية الحالي يأتي مكملاً للقرار، ودعا القرار الاستشارية إلى تقديم تقرير سنوي للجمعية العامة حول تنفيذ القرار.
وعودة للقرار وتبعاته، فإن التزامات الحكومات نحو مواطنيها في مجال حق الإنسان في الحصول على مياه الشرب تقع تحت ثلاثة مبادئ، وهي بلغة أهل القانون: الاحترام والحماية والوفاء. فالالتزام باحترام هذا الحق يتطلب من الدول الامتناع عن الاشتراك في أي عمل يتعارض مع التمتع بهذا الحق، مثل حرمان أي فرد من الحصول على حقه من الكمية الملائمة والكافية من المياه، أو تلويث المياه، أو وضع تعرفة باهظة أو تعجيزية على المياه. والالتزام بحماية هذا الحق يترتب عليه منع أي طرف ثالث من التدخل في حق التمتع في الحصول على المياه وينعكس على دور الدولة في ضمان حصول المواطن على مياه الشرب بأسعار معقولة في حالة خصخصتها. والتزام الوفاء يتطلب من حكومات الدول تبني الإجراءات الضرورية والاستراتيجيات الموجهة نحو التحقيق الكامل لحق الإنسان في الحصول على مياه الشرب.
وتأتي أهمية هذا القرار كونه يوفر أداة لمؤسسات المجتمع المدني لتحميل الحكومات مسئولية حصول المواطنين على مياه الشرب الآمنة بشكل منصف وعادل وتوفير خدمات الصرف الصحي وبمراقبة التزاماتها في ذلك نحو مواطنيها. كما أنه يوفر إطاراً عاماً لمساعدة الحكومات في وضع سياسات واستراتجيات فعالة تؤدي إلى منافع حقيقية للمجتمع في مجال الصحة. والجانب الآخر المهم هو في تركيز الاهتمام والأنشطة على الأشخاص الذين من الممكن أن يتأثروا أو يتضرروا بشكل كبير في مجال مياه الشرب وخصوصاً فئات الدخل المحدود والفقراء.
محلياً، يبدو أن هذا القرار ليس ذا تأثير مباشر على دول مجلس التعاون في مجال الضغوطات الخارجية، حيث إن دول المجلس قد حققت لمواطنيها إنجازات في مجال توفير مياه الشرب وخدمات الصرف الصحي لم تحققها الكثير من الدول في العالم حتى بعض المتقدمة منها. فبرغم شح المياه الطبيعية فيها، قامت دول المجلس بجهود مضنية وجبارة ومنذ فترة السبعينيات في التوسع في بناء محطات التحلية لتوفير النوعية والكمية المطلوبة من مياه الشرب، وقامت بتوسيع شبكات تزويد المياه المنزلية للغالبية العظمى من السكان الحضر لتصل في بعض الدول إلى 100في المئة، كما تم بناء مرافق معالجة مياه الصرف الصحي وتغطية مساحات كبيرة من مناطق التجمعات السكانية في هذه الدول لتصل نسب التغطية إلى أكثر من 90 في المئة في الكثير من دول المجلس. وقد ساهمت الوفورات المالية وموارد الطاقة في دول المجلس في تحقيق هذه الإنجازات الكبيرة المكلفة مادياً. وقد حققت دول المجلس أهداف الألفية الإنمائية المتعلقة بمياه الشرب والصرف الصحي وتجاوزتها قبل موعدها (2015) منذ زمن بعيد، وحالياً ينظر المجتمع الدولي إلى دول المجلس على أنها من الدول الرائدة في العالم في مجال توفير هاتين الخدمتين لمواطنيها.
ولكن قد تكون هناك الكثير من التبعات لهذا القرار على دول مجلس التعاون في مجالات إدارة الموارد المائية المختلفة، وقد يكون أهمها موضوع التعرفة للمياه المنزلية وخدمات الصرف الصحي. فإذا كان الحصول على مياه الشرب الآمنة حق إنساني، فلن تكون هناك إمكانية لوضع هذه التعرفة، أو تعديلها، إلا بعد إجراء بحوث ودراسات معمقة وتفصيلية تشمل الكثير من الجوانب الصحية والتقنية والاقتصادية والقانونية وغيرها، وسيكون أهم متغير ينبغي تحديده من هذه الدراسات هو كمية الماء الصالحة للشرب التي من حق الفرد الحصول عليها يومياً كحق من حقوقه للتمتع بالحياة تحت الظروف المناخية والدينية والاجتماعية السائدة في دول المجلس، والتي بعد توفيرها للفرد مجانا يمكن وضع تعرفة على ما تجاوزها من استهلاك. كما أن اعتبار الحصول على خدمات الصرف الصحي حق إنساني سيعيق خطط الكثير من دول المجلس في وضع تعرفة على هذه الخدمات لتحسين الخدمة واسترجاع تكاليفها لضمان استمرارها. وهذه دعوة للمسئولين والباحثين في مجال إدارة المياه البلدية لدراسة هذا الموضوع والبحث فيه.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 2889 - الثلثاء 03 أغسطس 2010م الموافق 21 شعبان 1431هـ