العدد 2888 - الإثنين 02 أغسطس 2010م الموافق 20 شعبان 1431هـ

في الحاجة إلى مراعاة الآخرين

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

في العام 1932 كَلّفت عصبة الأمم والمعهد الدولي للتعاون الفكري في باريس عالم الفيزياء المشهور ألبرت أنشتاين (1879 - 1955) بإدارة نقاش صريح حول أية مشكلة يختارها هو بنفسه. كان على أنشتاين أن يختار موضوع النقاش والشخص المناسب الذي سوف يتبادل معه وجهات النظر في هذه المناظرة. وقد اختار أنشتاين للنقاش مشكلة الحرب وأسبابها وكيفية الخلاص من تهديدها. ومن المؤكد أن اختيار موضوع النقاش سيمهّد الطريق لاختيار الشخص المناسب كشريك لأنشتاين في هذه المناظرة الثنائية. وكان من المنتظر أن يكون هذا الشخص مفكراً سياسياً أو شخصية دولية أو مختصاً في شئون الحروب أو العلاقات الدولية، إلا أن اختيار أنشتاين وقع على سيغموند فرويد (1856 - 1939) الذي انتهى قبل سنوات قليلة من دعوة أنشتاين من تأليف كتابه «الحضارة وإحباطاتها» (تُرجم إلى العربية بعنوان «قلق في الحضارة»)، وهو الكتاب الذي شرح فيه نظريته حول التلازم بين الغريزتين الأساسيتين لدى الإنسان: الغريزة الجنسية، والغريزة العدوانية.

لم يكن اختيار موضوع المناظرة عسيراً، فأنشتاين كان يرى أن الحروب هي المشكلة الخطيرة التي تواجه البشرية، بل يمكن أن تهدد وجودها في الصميم. وعلى هذا فإن مستقبل البشرية ينبغي أن يكون مرهوناً بقدرتها على وقف الحروب أو التقليل من مخاطرها. كل هذا مقنع، ولكن لماذا فرويد على وجه التحديد؟ لقد قرأ أنشتاين كتاب فرويد «الحضارة وإحباطاتها»؛ بدليل أنه يعبّر، في رسالته إلى فرويد، عن إعجابه بفكر فرويد وفكرة الكتاب الأساسية وهي الكشف عن ذلك «التلازم بين غريزة العدوان والتدمير وغريزة الحب والرغبة في الحياة في النفس الإنسانية». وتأثّراً بأفكار فرويد، ذهب أنشتاين إلى القول بأن الحروب ترتكز على رغبة غريزية قوية متجذرة في نفوس البشر، تلك هي غريزة الكراهية والتدمير والعدوانية. وهذه غريزة كامنة ويمكن استثارتها بقوة في أية لحظة وبخاصة في أوقات الاضطرابات الجماعية. ويبدو أن هذه القناعة هي التي حملت أنشتاين على اختيار فرويد كشريك له في هذه المناظرة الفريدة. وبالنسبة إلى فرويد فإن الكراهية (وهي المشاعر المتحدرة مباشرة من الغريزة العدوانية) ترتكز على ميول ونوازع غريزية عند الإنسان، وهي ميول ونوازع لا يمكن اقتلاع جذورها، ولا يمكن قمعها بصورة كاملة، ولهذا فلا جدوى من محاولة التخلص منها. وكل ما يستطيع البشر عمله تجاه هذه الميول والنوازع الغريزية هو محاولة تصريفها في قنوات أخرى غير قنوات الحروب والصراعات المدمرة. وعلى هذا، فالحروب لم تكن سوى ضرب من ضروب التصريف العنيف للكراهيات القاتلة والنوازع العدوانية عند البشر.

هذه هي الخلاصة التي يمكن الخروج بها من هذه المناظرة التي نُشرت في العام 1933 بعنوان «لماذا الحرب؟». وتعد هذه المناظرة التي لم يكتب لها الذيوع والانتشار على نطاق واسع واحدة من أهم المناظرات التي عرفها النصف الأول من القرن العشرين؛ لأنها جمعت بين اثنين من أعظم علماء القرن العشرين في العلوم الطبيعية (ألبرت أنشتاين)، والعلوم الإنسانية (سيغموند فرويد). واللافت حقاً أنه لو عاد هذان العالمان إلى الحياة اليوم لما تغيّرت خلاصتهما، ولما اختارا، أساساً، موضوعاً للنقاش غير الكراهية والميول والنوازع العدوانية لدى البشر. الأمر الذي يعني أن المعضلات الكبرى التي واجهت البشرية في النصف الأول من القرن العشرين، هي ذاتها التي مازالت تواجهنا في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين. وإذا كانت مشكلة الحروب العالمية الكبرى قد أطّرت مناظرة أنشتاين/ فرويد في العام 1932، فإن النقاش الراهن تؤطره حروب وصراعات كبرى وصغرى بين الحضارات وداخل كل حضارة، وكراهيات عريقة ومنفلتة ومن كل الأنواع العرقية والقومية والطائفية والدينية والإقليمية والجنوسية وغيرها. وتستوي في هذه الكراهيات بلدان العالم قاطبةً من أكثرها تحضّراً وديمقراطية حتى أشدّها تخلّفاً ودكتاتوريةً.

لقد أحرزت البشرية تقدُّماً مذهلاً على مستويات عديدة، إلا أنها مازالت عاجزة عن التقدّم بخطى ملموسة على صعيد التعامل مع هذه النوازع العدوانية التي يبدو أنها أعمق تجذراً مما توهم بعض الحداثيين ودعاة التحديث، وكثير من الشيوعيين اليوتوبيين الذين حلموا، فيما مضى، بعالم بلا طبقات وبلا عداوات وبلا صراعات وبلا كراهيات. لقد راهن بعض الحداثيين على أن التقدم المطرد في التحديث وقيمه كالفردانية والعقلانية سوف يُتوّج، في نهاية المطاف، بـ «ثقافة كونية» تنسحب، من على مسرحها، كل القوميات والطوائف، وتتراجع، على إثر ذلك، كل العداوات والكراهيات العريقة التي ارتبط وجودها بوجود هذه القوميات والطوائف. وفي نسخة أخرى مختلفة من هذه اليوتوبيا الحداثية، كان اليسار الماركسي التقليدي قد راهن على أن «موقف العداء بين الأمم» سيزول مع إلغاء الملكية الخاصة وزوال الطبقات. لقد مهّدت البرجوازية، من هذا المنظور، الطريق لتراجع «التعصّب والتقوقع القوميين»، ولزوال «الفواصل القومية والتناقضات بين الشعوب»، ولإرغام «البرابرة الأكثر حقداً وتعنتاً تجاه الأجانب على الاستسلام»، إلا أن هذا مجرد فاتحة وتمهيد لمسار ينتهي، لا محالة، بانتصار البروليتاريا. وسيضع هذا الانتصار حداً نهائياً لهذه العداوات والتناقضات بين البشر.

إلا أن هذا الانتصار لم يتحقق كما بشّرت به هذه اليوتوبيا، والعداوات والتناحرات والكراهيات والأحقاد العنيدة لم تختف، بل مازالت الكراهيات المنفلتة إلى اليوم قادرة على الاستفزاز والجرح والإيذاء، بل إنها ازدادت قدرة على ذلك مع زوال عزلة الجماعات (القوميات والأديان والطوائف)، واهتزاز فضاءاتها الخصوصية المغلقة، وتقدم الاتصالات بحيث صارت أخبار الكراهيات وحوادثها تنتقل بسرعة فائقة، وصارت تستحثّ معها، في كل مرة، انعكاساتها الخطيرة. وكأن «التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات» الذي ابتدعته البرجوازية، وراهن عليه الماركسيون فيما بعد، قد بدأ يفعل فعله ولكن بطريقة عكسية. فالتعصب والتقوقع القوميان لم يتراجعا، وموقف العداء داخل الأمة وبين الأمم لم يختف، والكراهيات بين البشر لم تهتزّ. بل صارت تتغذّى على هذا «التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات» والاتصالات، وتتوسّل به، بل تطوّعه لصالحها.

يمكننا أن نتجادل، اليوم، حول صحة هذا التحليل أو خطئه، لكن الحاصل أن هذا التحليل لم يكن عقيماً بالكامل، ولعل أهم درس يمكن استخلاصه من هذا التحليل هو أن انتعاش الكراهيات بين البشر إنما كان يستمد قوته من العزلة الجغرافية ومن التقوقع والانكفاء القديمين بين الجماعات. وقد تمكّنت الجماعات، في ظل هذه العزلة، من إنتاج كراهياتها وتداولها دون تكاليف باهظة. والسبب في ذلك أن العزلة كانت تؤمّن الأجواء المناسبة لانتعاش الكراهيات داخل كل جماعة. وبناء على هذا، يمكن أن يستنتج أحدنا بأن زوال العزلة سيكون نتيجة طبيعية لانفتاح حدود الجماعات بفضل «التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات» والاتصالات. وبهذا النوع من التواصل المكثّف ستزول العزلة، وتختفي، على إثر ذلك، الكراهيات العريقة. لكن الذي حصل لم يكن كذلك. فالتواصل المكثّف أصبح حقيقة بفضل التقدم المذهل في وسائل المواصلات والاتصالات والإعلام، إلا أن العزلة مازالت قائمة، والكراهيات العريقة مازالت منتعشة.

تضعنا هذه المفارقة أمام حقيقة مهمة، وهي أن وسائل المواصلات والاتصالات وسائل مرنة وطيعة ويمكن استخدامها في خدمة الأغراض المختلفة. بمعنى أن الجماعات تستطيع أن تعيد إنتاج عزلتها وكراهياتها بالاستعانة بهذه الوسائل. وإذا كان من شبه المستحيل تأمين العزلة المكانية القديمة في عالم جرى عولمته، وأصبح بمثابة «قرية كونية»، ومشبوكاً من أقصاه إلى أقصاه بشبكات اتصال معقدة ومتكاثرة، فإنه من غير المستحيل، في المقابل، أن تقوم الجماعات بإعادة إنتاج عزلتها الافتراضية والمتخيلة والتواصلية، وهي تفعل ذلك، اليوم، وبالتوسّل بشبكات الاتصالات المعقدة والمتكاثرة.

لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه ذلك «التسهيل اللامتناهي للمواصلات» والاتصالات في تقريب البشر، وتقليص المسافات، وتجاوز الحدود الجغرافية التي كانت تفصل بينهم، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، زوال عزلة الجماعات؛ لأن الجماعات قد تتساكن وتتجاور في المكان، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، أنها تتعايش وتتواصل فيما بينها، وبدل العزلة المكانية سنكون أمام عزلة تواصلية. ويمكن لهذه العزلة التواصلية أن تعيد إنتاج نفسها بالتوسل بتكنولوجيا الاتصال والإعلام، وذلك حين لا يجد أبناء الجماعات حاجة ملحة إلى التواصل إلا مع نظرائهم من أبناء جماعتهم، وحين يتوسّل هؤلاء بأحدث تقنيات الاتصال لا لشيء سوى خدمة التواصل الخصوصي المغلق فيما بينهم وتعزيز الروابط بين أبناء جماعتهم فقط. وعلى الشاكلة ذاتها، فإن المجال العام الذي تحدثت عنه في المقالات السابقة قد يصبح عديم الأهمية حين يكون مجزّأ بحيث يكون لكل جماعة فضاءاتها وفضائياتها وإذاعاتها وصحفها ومواقعها ومنتدياتها الإلكترونية الخاصة بها. وفي مثل هذه الظروف يمكن لذلك «التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات» والاتصالات، ولذلك المجال العام المجزّأ أن يؤديا وظيفتهما بطريقة عكسية، فبدل أن يعززا التواصل والانفتاح والعيش المشترك، ويهددا بزوال الفواصل وكبت الكراهية، إذا بهما يعمّقان عزلة الجماعات الافتراضية والمتخيلة، ويعيدا إنتاج الفواصل والتنافر والكراهيات والحساسيات المتبادلة.

إن التأمّل في هذه النتائج العكسية مهم جداً؛ لأنه يفرض علينا أن نعيد النقاش مجدداً في علاقة العزلة بالكراهيات، وفي دور تكنولوجيا الاتصال والمواصلات في وضع حد لهذه العزلة ولكراهياتها العريقة. وسوف أبادر إلى القول بأن الاتصال المكثّف لا يهدد العزلة لكونه يسهّل حركة البشر ويحسّن من كفاءة اتصالاتهم، بل إنه يهدّد هذه العزلة حين يتمكن من تجاوز عزلة البشر التواصلية، وحين يضع الآخر أمام الذات على نحو واقعي ومتخيّل، وحين يحمل الجماعات على الالتفات إلى آخريها ومراعاتهم، وأخذهم بعين الاعتبار من أجل التعامل معهم باحترام يليق بهم، الأمر الذي يحفظ للناس كرامتهم الإنسانية ويؤمن لهم العيش المشترك. والثابت أن البشر لا يتورّعون عن التعبير عن كراهياتهم بفظاظة جارحة في ظل غياب الآخرين المستهدفين بالكراهية، إلا أنهم (وهذا مرهون بألا يكونوا وقحين) يحسبون ألف حساب حين يقف هؤلاء المكروهون أمامهم وجهاً لوجه على نحو واقعي أو متخيّل. قد نسمي هذا النوع من أخلاقيات مراعاة الآخرين والالتفات إليهم باهتمام مجاملةً أو حتى تقيةً أو نفاقاً، لكنه ليس، بالضرورة كذلك؛ لأن التقية والنفاق تصرفان أنانيان ويتأسسان، بالدرجة الأولى، على الاهتمام بالذات ومراعاة الذات وحمايتها من الأذى، كما أن الالتفات إلى الآخرين، في التقية والنفاق، لا يكون إلا بدافع الخوف والخشية من قوة هؤلاء الآخرين، في حين أن أخلاقيات المراعاة تنطوي على ضرب من الاهتمام بالآخرين بالدرجة الأولى، إلا أنه اهتمام من نوع مختلف؛ لأنه لم يكن، كما في التقية والنفاق، بدافع الخوف من قوة الآخرين، بل بدافع الاحترام، احترام الجانب الإنساني فينا وفيهم. وهذا الاحترام هو الذي يدفعنا إلى مراعاة الآخرين والحرص على تجنّب جرحهم والإساءة إليهم عمداً. ويبدو أن هذا النوع من مراعاة الآخرين، لا تكنولوجيا الاتصال ولا غيرها، هو الذي يمكن أن يهدد العزلة، وهو الذي يمكن أن يؤمّن التعايش والتواصل البناء والإيجابي بين البشر، الأمر الذي يمكن أن يضع مصير الكراهيات العريقة أمام مرحلة حرجة.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2888 - الإثنين 02 أغسطس 2010م الموافق 20 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 5:42 م

      حلوة

      مقالاتك حلوة بس وايد طويلة

    • زائر 6 | 6:42 ص

      إلى زائر رقم 3

      مرة قرأت أن أهم ثلاثة أسماء في تاريخ الفكر الحديث هم فرويد وماركس ونيتشه. للعلم فقط، وناسي وين قرأت هذه المعلومة

    • زائر 5 | 6:40 ص

      مقال رائع

      مقال رائع ويفتح الأذهان المغلقة

    • زائر 4 | 5:56 ص

      فرويد 2

      والخبرة العملية جاءت نتيجة الاحتكاك بالآخرين وتسجيل الملاحظات وفهم العلاقات ومدى تأثيرها في المتغيرات والثوابت أضف إلى ذلك مخزون خبرات الآخرين من المعاصرين وغيرهم، إذا فرويد ليس من عظماء العلوم الإنسانية ولكنه مفجر ثورة علم النفس الحديث عن طريق غير مباشر.

    • زائر 3 | 5:53 ص

      فرويد 1

      اقتباس (لأنها جمعت بين اثنين من أعظم علماء القرن العشرين في العلوم الطبيعية (ألبرت أنشتاين)، والعلوم الإنسانية (سيغموند فرويد).) فرويد ليس له علاقة بالعلوم الإنسانية!! فرويد طبيب بشري وضع ما كان يعتقد بأنه صحيح في كتاب ركيك اعتبر بداية ظهور علم النفس الحديث، ثم لم يجد من يناصره بل إن كل علماء النفس بعد ذلك عارضوا فرويد في أغلب ما توجه إليه، وبالمناسبة علم النفس جذوره كانت موجودة في فطرة الناس لذلك برع القدماء في التحليل النفسي المتحصل من الخبرة العملية

    • زائر 2 | 1:41 ص

      دور الاديان

      اذا كانت الحروب و الصراعات ... ماهي الا نوع من انواع التصريف لغريزة الكراهية، فهل للاديان - السماوية و غيرها - دور سلبي او ايجابي في التعامل مع الكراهية؟

    • زائر 1 | 1:23 ص

      متابع

      تزداد في تألقك في كل مرة وهذا مقال دسم ويضع النقاط على الحروف وأصبت في إشارتك إلى الفضائيات الطائفية

اقرأ ايضاً