الأزمة اللبنانية لاتزال تعاني من ترددات حادث اغتيال رفيق الحريري. وحتى الآن لم تنجح الأطراف السياسية المعنية بالترتيبات المتوقعة في الاتفاق على صيغ مشتركة تمنع التدهور الأمني وتقود البلاد إلى انتخابات نزيهة وحرة. فالرئيس المكلف عمر كرامي اعتذر مجددا عن تشكيل حكومة "اتحاد وطني" بسبب رفض المعارضة المشاركة في وزارة قبل تحقيق مطالبها.
ومطالب المعارضة كثيرة ومتعارضة إلا أن أطيافها اتفقت على مجموعة نقاط منها: الانسحاب السوري قبل الانتخابات "وهذا بدأ يتحقق"، استقالة رؤساء الأجهزة الأمنية بتهمة التقصير على الأقل "وهذا كما يبدو في طريقه إلى التحقق"، وتشكيل لجنة دولية لكشف حقيقة اغتيال الحريري "وهذا أيضا يدرسه مجلس الأمن ويتوقع صدور قرار بشأنه"، وأخيرا إجراء انتخابات في موعدها المقرر في مايو/ أيار المقبل. والمطلب الأخير بدأ يتعرض لاحتمالات التأجيل إذا لم توفق الدولة في تكليف رئيس يشكل حكومة "توافق وطني" في أسرع وقت ممكن.
مسألة الانتخابات النيابية ستكون في الأسابيع المقبلة نقطة تجاذب بين الأطراف وهي تتطلب الحد الأدنى من الأمن والاستقرار لتعقد في جو من الطمأنينة لمنع احتمالات التزوير. وهذا لا يتم التوصل إليه إذا لم تشكل حكومة محايدة وتقنية تكون مهمتها الوحيدة تنظيم الانتخابات والإشراف على إعلان نتائجها.
تقريبا معظم مطالب المعارضة تحققت إلى حد ما. ومع ذلك لاتزال التشنجات السياسية قائمة إلى جانب إمكان التدهور الأمني والمالي، والسبب كما يبدو يعود إلى عاملين: الأول استمرار الضغوط الدولية "وتحديدا الأميركية" على الوضع اللبناني وهذا يرفع من نسبة التوتر ويقلل من إمكانات التفاهم ويزرع المزيد من الشكوك بين المعارضة والموالاة. والثاني ان معظم الخطوات التي أقدمت عليها السلطة اللبنانية جاءت متأخرة وفي الوقت الضائع، الأمر الذي خفف من تأثيراتها الإيجابية. فالتنازلات لم تكن مدروسة ولم تتخذ في الوقت المناسب بل جاءت في معظمها في إطار الاستجابة للضغوط الدولية وليس في سياق إعادة إنتاج تسوية سياسية مع المعارضة.
تراجع السلطة عن مواقفها لم يحصل بسبب ضغوط المعارضة ونتيجة دراسة جديدة للعلاقات الداخلية وتوازناتها. فلو حصلت التراجعات استجابة لضغوط الداخل لكانت النتائج أثمرت سياسات إيجابية شجعت المعارضة على التقدم تمهيدا لتسوية تتجاوز العقبات.
المشكلة أن السلطة كانت تهاجم المعارضة وتشكك في سياستها في وقت كانت تقدم فيه تنازلات لمصلحة الضغوط الدولية، وهو أمر عزز من فعالية التدخلات الخارجية وقلل من فرص المعارضة بطرح صيغ توفيقية.
كان على السلطة أن تفعل العكس حتى تستطيع استثمار التنازلات داخليا والحد من فعالية الضغوط الخارجية وإعطاء فرصة إلى المعارضة للتحرك في مساحة مشتركة. فالتراجع لمصلحة الداخل يعزز من إمكانات التوحد ويقرب المسافات ويرفع من نسبة الثقة بعد انهيارها في الشهور الأخيرة. ولكن السلطة مالت نحو الاستجابة لضغوط الخارج وفي وقت متأخر ومن دون رغبة فعلية منها... وهذا ما أعطى للقوى الدولية المزيد من القوة وخفف كثيرا من فعالية المعارضة. فالمعارضة الآن أخذت معظم ما تريده، ولكن مكاسبها جاءت من السلطة عن طريق الخارج وليس نتيجة حسابات داخلية أو مراجعة نقدية أقدمت عليها مراكز القوى في الدولة.
مشكلة السلطة اللبنانية - كما يبدو - هي مشكلة عربية بامتياز. فالأنظمة العربية كما تظهر على مساحة هذا العالم المستهدف من الدول الكبرى ترجح دائما العلاقات مع الخارج على حساب الداخل. ويفضل معظمها المصالحة أو التفاهم مع الضغوط الدولية على حساب التصالح مع المجتمع والتفاهم العاقل مع قواه السياسية المحلية. وهذا ما حصل في الفترة الأخيرة في لبنان حين مالت السلطة إلى تقديم تنازلات استجابة للضغوط الخارجية حتى لا يقال انها تراجعت لمصلحة المعارضة الداخلية.
هذا النوع من السياسات يفسر إلى حد كبير تلك الترددات التي أصابت لبنان وفاقمت أزمته بعد جريمة الاغتيال. فالسلطة لا تعترف بالمعارضة إلا بصفتها قوة خارجية تتحرك وفق برنامج أجنبي. والمعارضة تكسب بعض النقاط بعيدا عن قنوات الداخل وإنما بفضل الضغوط الدولية على السلطة. وبهذا المعنى فإن المستفيد من تلك التراجعات لا الدولة ولا المعارضة وإنما السياسة التدخلية التي تفاقمت محليا بعد إدخال الأزمة اللبنانية في سياق التدويل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 937 - الأربعاء 30 مارس 2005م الموافق 19 صفر 1426هـ