لسبب يصعب تحديده، برزت في ذهني مقارنة بين الطائفية التي لا تكف عن محاولاتها لشطر البحرين إلى أكثر من نصفين، وحكاية نبي الله سليمان الحكيم عندما أرشدته رزانة عقله أن يوهم الوالدتين، التي ادعت كل منهما أمومتها لطفلة، أنه سوف يهب كل واحدة منهما نصفا من تلك الطفلة بعد أن يشطرها نصفين. لكنه عندما تقدمت إحداهن، وعن طيب خاطر، وأبدت استعدادها للتنازل عن حقها في ذلك النصف، لقاء حفظ حياة تلك الطفلة، لم يتردد الحكيم، في إعطائها الطفلة كاملة، لأنه أدرك أنها الأم الحقيقية. لقد فضلت الحياة لطفلتها عوضا عن نيل نصفها ميتا.
أكثر ما يخشاه المرء، في هذه الأيام، أن تضطر الأغلبية البحرينية، وهي فئة منتشرة في صفوف كل الطوائف والأديان المتآخية في البحرين، دون أي استثناء، والتي هي الأم الحقيقية للبحرين، إلى تقديم المزيد من التنازلات لتلك الأقلية التي لا يهمها «شطر البحرين»، تماما كما كان موقف الأم الحقيقية لتلك الطفلة، التي وافقت حفاظا على سلامة فلذة كبدها أن تتنازل عن حقها الطبيعي في الاحتفاظ بها وتربيتها.
لقد تضافرت نوايا الأم الطيبة، مع حكمة سليمان وفراسته كي تعيد الطفلة إلى أحضان أمها الحقيقية، وتنقذها من موت شبه محقق. وبالقدر ذاته، وفرت على الأم تقديم تضحيات غير مبررة، وفي غير مكانها.
الغائب في الحالة البحرينية، والتي نحن في أمسِّ الحاجة لها، هو الجهة التي تمتلك رجاحة عقل سليمان، ممزوجة بجرأة لا تقل عن تلك التي كان يتمتع أناس مثل خالد بن الوليد، أو حمزة عم الرسول.
بالمقابل، وأكثر ما يتمناه من يحب البحرين ويدافع حقيقة عن مصالحها، أن تنجح الأقلية، والتي هي الأخرى منتشرة في صفوف كل الطوائف والأديان في البحرين، كتلك الأم المدعية، في أن تساهم غوغائيتها الممعنة في الأنانية، في شطر البحرين إلى نصفين، بل ولربما إلى أكثر من نصفين. فما يهمّ تلك الأقلية هنا، وفي هذه المرحلة، هو الحصول أو ربما الحفاظ على مكاسب تؤمن لها إمكانات الدفاع عن مصالحها التي لا تنتعش ولا تكبر، شأنها شأن البكتريا الضارة، إلا في البيئات الملوثة وغير الصحية، سياسيا كان ذلك التلوث أم اجتماعيا. وما عدا لك، لا تعيره تلك الأقلية المسيطرة على سلوكها أسوأ أشكال الأنانية أدنى اهتمام.
هذه الأقلية لا تكف عن إحداث المزيد من الضجيج الطائفي أو تثير الكثير من النزعات الاجتماعية الفوقية، من أجل تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
1. أن تبدو في عيون الآخرين، بمن فيهم القوى السياسية والاجتماعية المحلية، أنها الأغلبية، وأنها الوحيدة التي تمتلك حق القول الفصل في أوضاع البحرين، الأمر الذي يعطيها وحدها حق تحديد اتجاهات ومسار الحراك السياسي في الشارع البحريني.
هذه الفئة لا تتردد في استخدام كل الأساليب، بما فيها الوصول إلى شطر البحرين، كما كادت أن تنجح الأم المدعية، طالما يحقق لها ذلك مآربها التي، من بينها البروز في مقدمة الصفوف، والاحتفاظ بصورة من يمتلك مقاعد الأغلبية، بما يؤمن لها نيل أغلى المغانم في أية معركة سياسية، بما فيها تلك التي لا تخوضها هي مباشرة.
2. أن تقزم الأغلبية الصامتة، وترغمها على الاستمرار في صمتها، والانزواء في «أزقة العمل السياسي الضيقة والجانبية»، بدلا من أن تتمكن تلك الأغلبية الصامتة من رفع صوتها عاليا، وفي الجادات الرئيسية والطرق المفصلية.
وفي حال نجاح مشروعات التقزيم تلك، تفقد هذه الأغلبية، حق وصلاحية تعبيرها عن الشارع البحريني، ويتطور ذلك التقزيم كي يتحول في نهاية الأمر إلى أن تسيطر على قوى تلك الأغلبية حالة نفسية من السلبية تدفعها إلى ممارسة نقد ذاتي يكاد أن يصبح، في بعض الأحيان، إلى نوع من جلد الذات.
بالقدر ذاته، وعلى نحو مواز، نجد هذه الأغلبية، وفي أحيان كثيرة أخرى، تنزع، في محاولاتها للدفاع عن ذاتها، إلى التقوقع والانكفاء الداخلي الذي يتحول أيضا وعلى نحو تدريجي إلى ما يقرب من الصمت واللا مبالاة، يؤول تدريجيا إلى شكل من أشكال المعارضة السلبية.
3. أن تحرف اتجاه الصراع، من مساراته الحقيقية، الهادفة إلى انتزاع المزيد من الإنجازات السياسية والاجتماعية، القادرة على تسريع عمليات التحول من المجتمع القبلي، أو الطائفي إلى المجتمع المدني، إلى حصره في مكاسب آنية ضيقة، تتمحور حول الدفاع عن بعض الحقوق الطائفية، أو الامتيازات العائلية. حينها تتراجع إلى الخلف المطالب الوطنية الكبرى ذات الأبعاد الاستراتيجية، وتحتل مكانها في الصدارة دعوات تحريضية تعالج قضايا ثانوية، تحقق، في أحسن الأحوال، مكاسب هامشية، تسارع تلك القوى في تكبير أحجامها كي تمدها بشحنات مواصلة أدوارها الانتهازية.
من يريد أن يبسط الأمور، ويمعن في تسطيحها، بوسعه أن يلقي اللوم على ما تشهده البحرين من انشطار طائفي اليوم على الآخرين، سواء كان هؤلاء الآخرون قوى خارجية، أو مؤسسة رسمية، أو طائفة معينة دون سواها. لكن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، وبحاجة إلى ما هو أبعد من مثل هذه النظرة القصيرة الأمد، الضيقة الأفق. فالبحرين اليوم أكثر ما تكون بحاجة إلى هذه الأغلبية التي غيبت نفسها، وغيبتها تلك الأقلية والتحالفات التي نسجتها مع قوى داخلية وخارجية، إلى وقفة مصارحة مع الذات أولا وقبل كل شيء، ومع الناس، فيما بعد ذلك.
على هذه الأغلبية أن تعترف، أنها بوعي أو من دون وعي مارست دورا لا يستهان به، في تحجيم دورها هي من جهة، وأفسحت المجال أمام تلك الأقلية كي تستفرد، وحلفاؤها بالبروز في ساحة العمل السياسي البحريني من جهة ثانية.
هذه الوقفة لابد لها، إن هي أرادت أن تنتشل البحرين من مستنقع الطائفية الذي يطوقها، ويحول دون إنزالقها، مستقبلا، في طريق يقود البلاد، شاءت أم أبت تلك الأغلبية، نحو مهالك افتتان طائفي.
وليس هناك من طوق نجاة أفضل، في هذه المرحلة، من شجاعة تلك الأغلبية الصامتة حاليا ورجاحة عقلها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2401 - الخميس 02 أبريل 2009م الموافق 06 ربيع الثاني 1430هـ