العدد 2401 - الخميس 02 أبريل 2009م الموافق 06 ربيع الثاني 1430هـ

العالم والداعية... هل هما شخص واحد؟ (1)

عبدالرحمن الحاج comments [at] alwasatnews.com

ماذا سأكون: داعية... واعظا... باحثا... أم كلهم جميعا؟ سؤال يحير خريجي طلاب العلوم الشرعية. من الناحية العملية لا يبدو أن هناك خيارات كثيرة، فغالبا ما يمارس هؤلاء كل الأدوار من دون قدرة على التمييز بينها، ومعرفة أين يبدأ الدور وأين ينتهي، ودون السؤال: هل بالإمكان ممارسة كل هذه الأدوار جميعا؟ على عاتق هذا الوعي الهامشي بهذه الأدوار يقع الكثير من عبء الانقسامات والصراعات المذهبية، وانحسار التسامح، والتصاعد المستمر للتطرف الديني.

في هذا المقال نحاول إقامة تمييز بين أهم دورين: العالم والداعية، من أجل المساهمة في فض الخلط القائم بينهما، وبيان أين يتصل هذان الدوران وأين ينفصلان، وما هي السلوكيات المتوقعة من كل منهما، بما يساعد على الوفاء بمستلزماتها وإدراك خطورتها.

يشير مفهوم «الدور» إلى عمل أو وظيفة أو «موقع» يقوم به بعض أفراد المجتمع، يفرض أنماطا سلوكية محددة يتوقعها المجتمع عادة من القائمين به، ويتحدد على أساسها موقعهم الاجتماعي. وبغض النظر عن تنوع هذه الأدوار ومراوحتها بين ما هو اضطراري (مثل دور الأب وأدوار القرابة الأخرى)، وبين ما هو اختياري (التلميذ، الرئيس...)، فإن ثمة «أدوارا» تتعلق بالشأن العام تتسم بحساسية بالغة لخطورتها وأهميتها في حياة المجتمعات الإسلامية، وهي مثار التباس بسبب تداخلها وضعف الوعي بتمييز الحدود الفاصلة فيما بينها، ومنها «العالم»، و»الداعية»، اللذان نحاول في هذا المقال تناولهما، واستجلاء التمايزات القائمة بينهما بسبب الخطورة التي يتمتع بها هذان الدوران، واللذان غالبا ما يتم التعامل معهما على أنهما مترادفان يمثلان دورا واحدا.

نشير ابتداء إلى أن هذه الأدوار الاجتماعية لم تحظ داخل الفكر العربي والإسلامي بعناية من الدرس والبحث تستحق الذكر، وقد يعود ذلك إلى التأخر النسبي لتبلور مفاهيم علم الاجتماع الحديث ابتداء، والتأخر في ابتكار هذا المفهوم الذي لم يظهر حتى العام 1934 عند عالم الاجتماع «جورج هيربرت ميد»، على رغم الخطورة التي تترتب على فقدان الحدود الواضحة بين الأدوار، وخصوصا عندما تتعلق بالشأن العام وتمس كل المجتمع. ذلك أن مفهوم «الدور» يقوم بتوجيه الأفراد في كيفية تصرفهم وإنجاز مسئولياتهم على نحو ما سيتبين بعد قليل.


العالم... ينشئ المعرفة

المهمة الأساسية للعلم هي البحث عن الحقائق والكشف عنها، وهي مهمة لا تتحقق إلا بالامتحان المستمر للمعرفة البشرية، وهذا ما يفرض أن يكون في سمة العالم القدرة على «النقد»، ذلك أنه بغير هذا الدأب المستمر في كشف الخطأ لن يكون بإمكان الإنسان الاقتراب من الحقيقة. وهذا النقد ينبني منطقيا على إعادة النظر في جهود من سبق، وطرح الأسئلة عليها والتشكك فيها. ومن دون هذا «الشك» العلمي لن يستطيع العالم إدراك العيوب المحتملة، سواء كان ذلك متعلقا بآرائه السابقة أم بآراء غيره من سبقوه في خصوص الحقل العلمي المشترك بينهما.

وعندما يقدم العالم وجهة نظر ما فإنه لا يمكنه أن يقدمها إلا باعتبارها «نسبية»، أي (صحيحة تحتمل الخطأ) على نحو ما عبر الإمام الشافعي رحمه الله، وإلا فإنه يعود على نفسه بالنقض إذ انطلق لنقد غيره وامتحان رأيه من أرضية احتمال الخطأ.هذا فضلا عن أن النسبية تعني - فيما تعنيه -اعترافا بأن الحق لا يعلمه إلا الله أنه كذلك، وأن الطبيعة الإنسانية تبقى عاجزة دوما عن إدراك معظم الحقائق، وإنما هي تتلمسها وتقترب منها أو تبتعد عنها بمقدار دقتها وعمقها في النقد.

وإذا كان ذلك فإن الصرامة العلمية تقتضي الاعتماد على «اصطلاحات» تحدد - بـ»دقة» وبمفاهيم وألفاظ متفق عليها - ما يريد قوله وما يعنيه. لأجل هذا تتسم اللغة العلمية بطبيعتها الجافة وكثافتها الاصطلاحية، وتبتعد دوما عن التعبيرات البلاغية واللغة الشعرية والأدبية الجمالية؛ لأنها بذلك تفقد قدرتها على الضبط. (كثيرا ما يردد العلماء عبارة «التبسيط المخل»، ويردد المتصوفة: «كلامنا حرام على غيرنا»).

ويتحدد في الخطاب العلمي الاختصاصي المخاطب باعتباره مختصا أو مقتربا من الاختصاص وملما بأساسياته، إذ الغاية من الخطاب هي توصيل نتائج الأبحاث إلى أهل الدراية والخبرة، وذلك يعني أن المخاطب بالنسبة للعلم هم «الأقران»، وبالتالي فإن الخطاب العلمي هو بالضرورة «خطاب نخبوي» بامتياز، مقتصر على فئة محدودة من الناس. (خاطبوا الناس على قدر عقولهم، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!).

زد على ذلك أن العدة المعرفية - التي تمثل أدوات العالم في البحث العلمي سواء الحسي التجريبي أو النظري - ذات طبيعة نظرية تجريدية، مهما كان الموضوع العلمي الذي تشتغل فيه، وخصوصا في المناهج التي لا يستغني عنها علم، والمناهج كما هو معلوم للكثيرين شيء «تجريدي» بحت. وعملية الاستنتاج هي أيضا عملية معقدة ناتجة عن التجريد المنهجي ومتولدة منه، ما يقتضي القول إن العالم - بوصفه باحثا - لا يتوقف عن النزوع إلى التجريد.

وعلى هذا يتحدد دور العالم في إنتاج المعرفة و»إنشائها»، وتبليغها بدقة إلى أهل الاختصاص (النخبة)، ويقتضي ذلك عددا من السلوكيات المتوقعة في اللغة المستخدمة (اصطلاحية)، والسلوك الذهني (التجريد)، والموقف من الجهود السابقة (السلوك النقدي)، لتؤطر هذه السلوكيات بمجموعها شخصية العالم وتطبعها على نحو خاص.


- الداعية... مُبلغ المعرفة

ماذا تعني «الدعوة»؟ أليست إقامة جسر بين «مدعو» و»مدعو إليه» يجعل المدعو يلتزم بمقتضيات المدعو إليه؟ إذا كان الأمر كذلك فإن عمل الدعوة يستلزم أن يكون المخاطَب «أدنى معرفة» من المخاطِب بالضرورة فيما يدعو إليه، وسواء أكانت هذه الدرجة بسبب معرفة منسية لدى المدعو (الدعوة بين المسلمين) أم كانت بسبب عدم وجودها أصلا (الدعوة بين غير المسلمين). وبالتالي فإن «جهة الخطاب نازلة» باتجاه الأدنى والعامة، والمخاطَب ليس النخبة أساسا، بل «الجمهور» الأعظم، ومن هنا ترتبط كلمة الدعوة دوما بالجمهور.

وحتى يكون الخطاب في الدعوة مؤثرا وموصلا إلى الغاية فإن التعبير يتخذ دوما الطابع «البلاغي» الأدبي، الذي يعتمد في كثير منه على بعث الشعور الفطري الإيماني، ويبتعد بطبيعة الحال عن اللغة العلمية الاصطلاحية الجافة والمرهقة، ليعتمد بدلا من ذلك أبسط التعابير وأدلها.

وباعتبار غايته التي تتلخص بالالتزام بمقتضيات الإيمان بـ «المدعو إليه» فإن السلوك الذهني مهموم بالناحية «العملية التطبيقية» وليس بالناحية المعرفية العلمية، فاستناده إليها ليس إلا بالقدر الضروري؛ أي بالقدر الممكن لإقامة الدعوة.

وحتى هذا القدر من المعرفة هو من نوع «المعرفة المستهلكة» المتلقاة، أي المعرفة الحفظية الناجزة من قبل الغير؛ فالداعية لا يقوم بإنتاج المعرفة وإلا دخل في دور العالم وهذا سيقتضي تعارضا سلوكيا أكيدا لا ينفض إلا للأنبياء الذين يتلقون الحقيقة عبر صلتهم بالوحي أي بالحقيقة المطلقة.

يبقى أن المنطق الذي يحكم السلوك الذهني للداعية هو القطع و»التسليم» بصحة ما يدعو إليه؛ لأن الشك يتعارض مع الغاية العملية التي يتوخاها الدعاة؛ إذ اعتبار ما يدعون إليه «مجرد رأي» من بين آراء يُسقط المدعوين في اختيارات محيرة. كما يضع الداعية في موقف التردد في وقت يُطلب منه الحسم. وهذا التسليم أو الحسم هو الذي يمنح الحماس والقدرة على إلهاب الشعور الجماهيري.

وعلى هذا يتحدد دور الداعية في إطار الثقافة الإسلامية بـ «تبليغ المعرفة» التي ينجزها العالم، باعتبارها «مسلمة»، إلى أكبر «جمهور» ممكن لتحويلها إلى واقع «عملي»، وهو دور يفرض خطابا «بلاغيا» تأثيريا، ويستلزم نمطا سلوكيا ذهنيا يتمحور بشأن «التطبيق»، وبالتالي فإن جهة التفكير والخطاب - بالنسبة للداعية - نازلة.

العدد 2401 - الخميس 02 أبريل 2009م الموافق 06 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً