أول ما بدأت في مراجعة عيادة دكتورتي لوحدي (دون أن يكون بصحبتي أحد من أهلي) كنت في سن التاسعةَ عشرة ربيعا، وكنت لا أعهد إلا القليل في علم الحياة، وكانت دكتورتي حينها التي مازالت عيادتها تعمل بمثابة أم ثانية لي، تعلّمني تارة وتعزّرني تارة، وتربّيني تارة أخرى.
لقد تعلّمت أصول التعامل مع الناس، ورأيت في عيادتها الكثير، إذ ما كنت سأصبح ما أنا عليه لولا دخولي تلك العيادة، ورؤية الناس واختلاطي بهم، وهكذا علّمتني الحياة يوما بعد يوم.
رأيت الغني والفقير والعالِم والجاهِل، وتعرّفتُ على أطيافٍ كثيرة وعديدة، دخَلَت حياتي واستقرَّت في ذاكرتي، والصراحة لا أنسى أيا من الذين تحدّثتُ معهم أو تناقشت معهم، أو حتى تجادلتُ معهم.
ولكن الحصيلة الجميلة هي الخبرة التي خرجتُ بها، بعد خمس سنوات مستمرّة قضيتها في كَنَف تلك الدكتورة ورعايتها وعلمها، ولا أستطيع نكران ما تعلّمته من عيادتها الصغيرة.
لقد تعلّمتُ أن أقول كلمة «لا» عند الحاجة، وأعلم بأنها صعبة على بعض الناس، فهم يتحرّجون من قولها للأهل والأصدقاء والمعارف وغيرهم، ويضغطون على أنفسهم في أشياء تثقلهم وتسيء لأمورهم، فقط لأنها صعبة، فتخرج كلمة «نعم» من الفم، ولكن العقل والقلب يقولان «لا»!
كذلك تعلّمت في عيادتها اكتشاف مواهبي، وصقل ما أجيده ليكن أفضل وأفضل، وكانت تشجّعني الدكتورة على ذلك، فكلما ارتقيت في أمر ونجحت في شأن ما، وجدتُ هديتها تسبقها لتشجيعي على تلك المواهب، فعَلِمتُ بأن التشجيع قناة جميلة تؤدي إلى نهايات سعيدة.
وأيضا ما أزال أتذكر بأني تعلمت الصبر والمثابرة لتحقيق الآمال، فليس كل شيء سهل كما نراه، وليست الدنيا رسمة زيتية متكاملة في عيوننا، بل هي قاسية في أغلب الأحيان، وتلفّها الأشواك والشرور، والناجح من يعرف كيف يراوغها من دون أن تَصطاده شِباكها.
وأخيرا تعلّمت في عيادتها الحزم والربط والشدّة واللين، فنحن لا نستطيع أن نبتعد عن هذه المتناقضات في أمور حياتنا، ولكن نحتاج إلى المهارات اللازمة للحصول عليها، وأعتقد بأن خير معلّم هو العمل الدؤوب في هذه الحياة.
إن ممارسة العديد من المهن تُعطي الفرد خبرات كثيرة، قد يحتاجها في مستقبله الغامض، وقد تُساعده في يوم من الأيام على شق طريقه بنجاح، وأعتقد بأن لكل منا قصة في مكان ما، وهذه كانت قصتي في عيادة الدكتورة التي كنت أراجعها!
إقرأ أيضا لـ "مريم الشروقي"العدد 2401 - الخميس 02 أبريل 2009م الموافق 06 ربيع الثاني 1430هـ