هذه الرسالة إلى رئيس الجمهورية اللبنانية فخامة الرئيس إميل لحود، من مواطن عربي يشترك مع اللبنانيين، أو قل يشترك مع كثيرين منهم، في طلب المعافاة للبنان وأهله، نتيجة ما عرف حتى الآن من فظائع ارتكبت في الحرب الأهلية اللبنانية وتخوفا من أن يعود ولو ظلها إلى هذا البلد العربي الجميل، لذلك فإني استأذن بأن أضع النقاط الثلاث الآتية بين يدي فخامة الرئيس، لعلها تعين.
أولا: في الحرب الكريهة السابقة ضحي بلبنان وبمعظم أهله وقذف بهم في حرب ضروس، لأن البعض اعتقد أنه يستطيع أن يفرض على الآخرين وجهة نظره ولو بالقوة، وفشل هذا الخيار بعد أن قدم اللبنانيون البسطاء ثمنا مهولا لاشك يعرفه الجميع، وفخامتك على رأسهم، فقد دمر الوطن وشرد المواطنون، ويتم آلاف الأطفال وترملت آلاف النساء، ومازالت الآثار النفسية والإنسانية والحضارية وستبقى لفترة من الزمن في العقول والقلوب.
واليوم تقتضي الحكمة والعقل ألا يعود البلد إلى الخراب، وخصوصا أن الظروف قد اختلفت تماما والمعطيات الإقليمية والعالمية قد تغيرت، ومن جديد لا يستطيع أحد أن يفرض رأيه على الطرف الآخر بالقهر والتسلط.
لعل الجميع يذكر أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان في مطلع الثمانينات كان وقحا وصلفا، ولكن قابله البعض، حتى في الجنوب اللبناني، بشيء من الراحة، بل قيل إن أرزا ووردا نثرا في الاستقبال الأول، كما نشر وقتها في وسائل الإعلام، هذا ليس بسبب كره مغروس في نفوس أولئك المواطنين للقضية الفلسطينية، ولا هو بالتأكيد قصيدة في حب الغازي الصهيوني، بل إن التكييف العقلاني كان وقت ذاك، إن اللبنانيين هناك قد ملوا وعافت نفوسهم إلى درجة عميقة التحكم في حياتهم من قبل الغير، حتى لو كانوا أصحاب القضية العربية الكبرى، فهناك حدود للقبول والتضحية، وهؤلاء أنفسهم أو بعضهم هم من حملوا السلاح لاحقا لدحر الغزاة، جريا على القاعدة نفسها، وهي قاعدة أن الوطن لا يشارك فيه أحد، شقيق أو دخيل، وخصوصا إذا رام التدخل الفظ، وهي قاعدة مهما كثر الكلام بشأنها مزايدة أو مناقصة، هي حقيقة تعلن عدم تقبل فكرة اقتسام الوطن، فالوطن لا يقبل القسمة، فالضجة والتأفف من اليد الغليظة الخارجية أمر طبيعي، حتى ولو كانت شقيقة، هي يد غليظة، يكرهها المواطن، وإن استقرت بلا سقف زمني تؤجج الوجدان، ويقلب لها ظهر المجن. ولعلك تلاحظ يا فخامة الرئيس أن القمة العربية قد كرست منذ رأستها في بيروت قبل أعوام كثيرة، طريق "السلام" النافي لخيار الحرب، الذي لا قبل لأحد به، بعد أن سارت أمور كثيرة في مجرى الصراع الإقليمي، فهل يذهب لبنان ولو شعارا، إلى الحج وقد عاد الناس منه! وهل له قبل بذلك!
ثانيا: إن اغتيال المرحوم الشهيد رفيق الحريري نظر إليه كثيرون على أنه اغتيال الأمل اللبناني، بل والعربي الإيجابي في لبنان. فإن كانت الدولة، كما هو مفترض، بعيدة عن هذا العمل، فإن المنطق يقول إن المطالبة بلجنة تحقيق دولية، من الأمم المتحدة، هو منطق سليم وعقلاني، إذ تتوافر لمثل هذه اللجنة الحيادية والموضوعية والعلمية. وليس جديدا أو خارجا عن المألوف الاستعانة بالخبرة الدولية في مثل هذه الموضوعات الدقيقة، لأنها تحتاج إلى خبرات ليست متوافرة بالضرورة في الوطن، وكلما زاد التأخير والتأجيل، كلما أصبح الوصول إلى الأدلة المادية متعسرا.
وفي ضوء الموقع اللبناني، والقيمة الدولية للشهيد رفيق الحريري، وموقعه لبنانيا وعربيا ودوليا، وما رشح حتى الآن من تقرير لجنة تقصي الحقائق، التي تلاحظ أنه من المشكوك فيه الوصول إلى الحقيقة طالما ظلت القبضة الأمنية كما هي لم تجب على أسئلة مركزية حتى الآن، ولم يعاقب أحد من الأجهزة حتى بالإهمال. وأمام المطالبات الدولية اللحوحة، فقد أصبح من الحكمة وبعد النظر الاستعانة بهكذا لجنة دولية مستقلة، يوكل إليها التحقيق الشامل، لأن التحقيق المعمق ومعرفة الجناة وتقديمهم إلى العدالة، أكانوا أشخاصا طبيعيين أو غير ذلك، يردع الآخرين عن العبث بأمن البلاد، التي لم تعد مقفلة على أهلها، فهي محطة كوزموبوليتانية للعالم وملتقى الغرب بالشرق، والتسويف في هذا الأمر يزيد من الشكوك بقدرة الأمن أو الدولة، وتأليب الأقوال ونثر الشائعات، أما التعجيل في قبول اللجنة الدولية فإنه يفرغ الاحتقان، ويجعل الأعمال قريبة إلى النيات.
وما قيل من بعض المسئولين اللبنانيين حتى الآن نقدا لتقرير لجنة تقصي الحقائق، هو بالمناسبة لا يقنع العاقل، وكان أفضل لو لم يقل، لأنه غير واقعي وغير مقنع، ويسير باتجاه الخلط والتسويف، ويدلل على غياب العقل.
ثالثا: الاستحقاق الانتخابي الحر والمراقب دوليا، هو المخرج الصحيح لما ارتكب حتى الآن من أخطاء، شارك فيها كثيرون، وهو ما تقود إليه إشارات المرور الدولية، فصناديق الانتخاب هي الفيصل، الذي لا بعده ولا قبله، لوضع لبنان على الطريق الصحيح والصحي. فبخروج ندوة لبنانية منتخبة بشكل حر ومطلق، يصبح في يدها رسم الحلول للمشكلات العالقة، وقتها مهما تكن هذه الحلول لا ترضي البعض، فلن يتعاطف مع هذا البعض أحد، لأن الشعب اللبناني وبمطلق الحرية، اختار من اختارهم ليسيروا له أعماله السياسية والاقتصادية، ويرسموا علاقته بالخارج، وينظموا علاقات القوى في الداخل.
إن مفصل الانتخابات الحرة المراقبة دوليا هو مفصل يتوافق عليه الجميع، في الداخل و الخارج، وأصبح التهرب منه أو تأجيله أو خلق المحاذير بشأنه، أو التلكؤ فيه مظهر لمخبر الفرار من الاستحقاق الأكبر الذي يتوقعه العالم. وتأجيل الاستحقاق الانتخابي عبر تأجيل تشكيل حكومة، له مخاطر أعمق وأكثر تأثيرا مما تم حتى الآن من أخطاء، وقد يقود إلى تأكيد شكوك البعض في تورط الدولة. ولعل المراقب يشهد لأول مرة في تاريخ الشعب اللبناني، الاصطفاف على أساس سياسي، وهو غير الاصطفافات السابقة التي تمت على أساس طائفي، وهو تغيير نوعي يأخذ لبنان إلى أبعد من الخلافات التقليدية السابقة.
فخامة الرئيس، سيأتي كثيرون إلى فخامتك ليزينوا هذا الفعل أو ذاك، وقد يكونون أصحاب مصالح آنية، يزينوها بأفكار وردية وشعارات جذابة، وقد يكون بعضهم صاحب رؤية محدودة، أو ذلك مبلغهم من العلم القليل، إلا أنك تعلم علم اليقين كيف نظر التاريخ إلى من سبقك بسبب مواقفهم الكبرى، فقد نظر إلى بشارة الخوري وإلياس سركيس، على غير ما نظر إلى آخرين، تسنموا المسئولية نفسها، فضاقت عليهم، وامتلئ فخارهم بالكرسي على فخارهم بالوطن، غير عابئين بموقعهم على كرسي التاريخ الوطني.
لهذه الأسباب الثلاثة التي يمكن، إن عولجت بحكمة، أن تجعل من لبنان بلدا حضاريا، أو إن أهمل علاجها تخلطه بما هو قائم حوله، من استبداد مقيم، وسيكون الخيار أولا لك، وثانيا لشعب لبنان
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 935 - الإثنين 28 مارس 2005م الموافق 17 صفر 1426هـ