العدد 935 - الإثنين 28 مارس 2005م الموافق 17 صفر 1426هـ

الوسط - جعفر الديري

جنوبهم تضج لغة

كدت تذكرهم واحدا واحدا، أولئك الطيبون، الذين كنت تقتفي خطوط أيديهم، وهي تمتد الى الحبال. وكنت أول من يستبيك الهجوع على أكفهم السمراء. وهي تخاطب السماء خطاب من أرقته لياليه فلثم جيد البحر وتنفس هواءه ورحل حيث يكون الوجع حلما شهيا بحجم دوحة غناء.

وكنت تعلم حجم المحيط وحجم سعة النهار وسعة المساء وهو يرمق أعينهم وهي تتباهى كمن وصل الى حيث يكون الوجود خاتما يضعه البحار في اصبعه حتى متى رجع الى بيته خلعه وهو يتحسس أثره على قلبه لا على اصبعه... اصبعه المتشقق وابهامه الذي يسبح ربه مع كل ميلاد جديد.

وكدت تكون معهم وهم على أهبة السفر، وجنوبهم تضج لغة، وقوافيهم التي يخيطونها مع زهر زهريات الفجر نهمات توغل بهم في الطريق الطويل، وزهريات تتجمع لتشكل أفقا رحبا يأخذ من قلوبهم سعته ومن لونهم مداه. طالما أنك كنت تبتسم معهم وتشرب من حنايا أقوالهم، ومرابع طفولتهم حينما يحكون ليالي الجوع والعطش وسكرة الاعتداد.

توهمت حينا أنك ستشرع من بين كل المناظر، مرآة واحدة قادرة على أن تجعل منك بحارا سقيما على شاطئ البحر، يرقب سريان السفن وهو عليل لا يستطيع الوثوب، فكنت حينها كذلك البحار القطري المريض، الذي تناول يوما لقمته فعافها، وشرب ماءه فغص به، وتوسد مسنده فأحس وكأن ابرا تخز ظهره، وهو في كل يوم يزداد سقما، فأعيى مداويه، الذي أمر بأن لا تمسه الشمس بسوء. فغافل طبيبه وحارسه وخرج الى البحر، وتوجه بوجهه ناحية الشمس وما أن لمسه نسيم البحر العليل، وقابلته صور الأطفال وهم يسبحون على الشاطئ، حتى رمى بنفسه جملة، وشرب من ماء البحر، ورمى الماء فعاد صحيحا معافى.

وتذكرت حينها النوافذ المشرعة وصورة الأنثى وهي تسارق الضوء بحثا عن زوجها الغائب، ومدامعها شاخصة لأول فجر ينبثق من بين الضباب... يد تتقاذفها أمواج البحر، وقلب يكتب اسم وليدها على بطنها متدثرا بغربة البحث عن الرزق الحلال. نوافذا تتمايل في عينها الساهرة، تبحث عن زورق في السماء يرمي لها ضحكات طفل صغير يرفعه أبوه وهو في عباب البحر... لؤلؤة يضعها على كفه خيطا متوهجا برائحة الأطفال، ونوار بسماتهم.

كدت تذكرهم واحدا واحدا ووراءك تاريخ يركض الى ذراعيك، ويتشمم عطر أطفالك المقبلين الى زرقة اليم وضوء المساء





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً