قال البريطاني لويد جورج في العام 1919: "بالنسبة لنا فإن صداقة فرنسا تساوي عشرة بلدان من سورية"، نبدأ بهذه العبارة التي اوردها مالكوم ياب في كتابه "نشوء الشرق الادنى الحديث 1792 - 1923"، والذي نقله الى العربية خالد الجبيلي. نبدأ بهذه العبارة لنطل على تعاطينا مع التاريخ كعلم نؤسس عليه حركتنا في الحاضر ورؤيتنا الى المستقبل، ولا نأخذ التاريخ كتسلية للوقت الذي تهدهد فيه الامهات والجدات اجفان الصغار حتى يغزوها سلطان النوم، وليس كما نتعاطى مع التاريخ كارتكاز معنوي فقط لتأكيد أننا كنا في يوم ما أمة عظيمة. وفي هذه العجالة لا يمكننا أن نبين كيف أننا دائما ننقلب على ذاتنا الثقافية لنعيد انتاج ثقافة تابعة ليس لنا منها اكثر من الانقياد للآخر.
"التاريخ يعيد نفسه" مقولة نكثر من ترديدها الى حد بتنا أسرى لها، فكل حركة نعيدها الى هذه المقولة ولكننا لا ننظر الى الجهة المقابلة لهذه العبارة. فإذا كان التاريخ يعيد نفسه فهذا يعني أن الجلاد هو ذاته والضحية هي هي، ويعني أيضا ان الضحية لم تستفد من الدرس، ولم تطور خبرتها واساليب تعاملها مع الجلاد، وأن اداة الجلد والذبح هي ذاتها، ولن يجد الجلاد كبير عناء في اعادة استخدام اساليبه وادواته طالما أن الضحية لاتزال في جهلها واستسلامها للجلاد، أي أن الدلالة الضمنية التي تحملها هذه العبارة هي أن الغباء يجعل التاريخ يعيد نفسه.
خلال نصف القرن الماضي اتخمت المكتبة العربية بالدراسات والابحاث والمؤلفات التاريخية، وكانت غالبيتها مبنية على مصطلح "المؤامرة"، أكان ذلك تبريرا أو إدانة أو تفنيدا، ودائما كان الخطاب العربي يعيد انتاج ذاته من دون اي تغيير يذكر لا لشيء إلا لأن ذهن السلطة العربية انشغل بالمسلمات التي تحاكي غرائزه وميوله فوضع الاستنتاجات والتبريرات المنسجمة مع النتائج الموضوعة مسبقا، وعلى ذلك قامت البنية العربية، الدستورية والقانونية والتربوية والاجتماعية ومن ثم الاقتصادية، فأصبح ذلك بمجموعه سمة الثقافة العربية، اي اصبحنا نضع النتائج ومن ثم نعمل على صوغ خطاب يخدم هذه النتائج من دون أن نتبصر في مدى فائدتها لنا ومدى مطابقتها للواقع.
ففي عصر المقابر الجماعية في العراق رأينا كيف قامت عمارة أدبية كاملة تمجد الدكتاتور الذي ساعة جعله المداحون مؤمنا، وساعة أخرى مثقفا، وفي ثالثة جعلوه فارسا مقداما، وفي ساعات الاسترخاء كان الأب الحاني، أي كان دائما بحسب الطلب والحاجة، ولم يفكر هؤلاء لحظة واحدة في مدى انسجام ذلك مع الواقع.
هذه العمارة الادبية انهارت تماما عندما انهار عصر المقابر الجماعية، وذهبت كل الدراسات والابحاث والروايات والقصائد سدى وباتت خارج التاريخ، أقله في المرحلة الراهنة حتى يخرج من لديه الجرأة على اجراء دراسة معمقة في التأثير النفسي لشخصية الحاكم على المثقفين والنخب واستخلاص النتائج الواقعية عما يسببه ذلك من تخريب ثقافي في حركة الشعوب.
الى هنا نعود الى لويد جورج ونعود الى الصداقة البريطانية - الفرنسية التي تساوي عشرة بلدان من سورية، وسورية المقصودة في كلام لويد جورج ليست سورية الراهنة الناشئة من سايكس - بيكو التي بات واضحا أنها استنفدت ذاتها، وأن معاهدة جديدة لتقاسم النفوذ ربما سنشهدها في المستقبل القريب لكن بين وريث بريطانيا "الولايات المتحدة" وبين الشريك القديم - الجديد "فرنسا". نقول إن سورية المقصودة في قول جورج هي سورية الطبيعية، وهذه الصداقة التي تساوي عشرة بلدان أهملت تاريخيا وبقيت مدارسنا بعيدة من البحث فيها، لا بل إن ابحاثنا التاريخية جعلتنا نقتنع بمقولة "الانتداب" التي تعني القصور، ما يعني الحاجة فعلا إلى الوصاية والاقتناع بها، لا بل العمل من أجل جعل ما ترسخه من انماط واساليب تكون في نهاية المطاف خادمة لهذه الوصاية حتى بعد رحيلها.
علم التاريخ يلعب دورا أساسيا في صوغ بنى الدول من خلال دساتيرها وقوانينها وأساليب العمل السياسي، لأن النخب هي التي تصوغ هذه الدساتير استنادا الى التجارب السابقة، لكن شرط أن تكون مدركة ضرورة الاستفادة من التجارب السابقة، ولأن حديثنا عن مقولة لويد جورج فإن اهم أمثولة في هذا السياق الموروث التاريخي في لبنان الراهن الذي تأسس على تسوية مؤقتة انتجتها حوادث النصف الاول من القرن التاسع عشر ووضعت في العام ،1861 والتي عدلت في العام ،1864 وكانت وقتذاك محصورة بجبل لبنان، الذي كان يشمل في تلك المرحلة إضافة إلى الجبل الحالي، بيروت والبقاع وطرابلس وصيدا، وبحسب ما يثبته مالكوم ياب في كتابه المشار اليه أعلاه فإن هذه التسوية كانت تقضي بأن يصبح "جبل لبنان متمتعا بحكم ذاتي تحت ضمانة دولية يحكمه مسيحي ويعاونه مجلس منتخب يتألف من اعضاء يمثلون جميع الطوائف "4 موارنة، 3 دروز، 2 روم ارثوذكس، وواحد من كل من الروم الكاثوليك والسنة والشيعة""، هذه التسوية التي تحدث عنها ياب هي التي قام عليها لبنان الراهن سياسيا، لكن مع اختلاف بسيط في توزيع التمثيل الطائفي روعيت فيه التغيرات الديموغرافية التي نشأت بعد اعلان لبنان الكبير. هذه التجربة التاريخية لم يستفد منها في لبنان لأن التاريخ كان فقط يستخدم لبعث القلق في النفوس من الآخر الذي هو في حقيقة الامر المواطن الذي يتأسس عليه الوطن، وليس فقط الشريك في الوطن الذي يمكن في يوم ما أن يفسخ هذه الشراكة، وليس هو الوطن - التعايش المشترك الذي يمكن في يوم ما أن تتغلب فيه المغامرة على ضرورة التعايش فتؤدي الى اللاتعايش، فالمواطن الذي هو نواة الوطن لم يتعلم الاستفادة من الاخطاء التاريخية في بناء وطن راسخ تكون فيه القاعدة الاساسية هي حياة الوطن الدائمة المستمرة، وليس التعايش بمعنى أن يذوب الجميع في الوطن فلا تبقى فيه حسابات الطوائف ومصالحها العامل الذي يحرك الوطن بل يصبح الوطن اكبر من كل التسويات ومصالح الطوائف.
والسؤال: هل يمكن أن نستفيد من التاريخ كعلم ونفهم ماذا كانت تعني مقولة لويد جورج في العام 1919؟ وماذا تعني كل الكلمات التي تقال الآن بين الفرنسيين والاميركيين عن بلادنا؟
العدد 934 - الأحد 27 مارس 2005م الموافق 16 صفر 1426هـ