عصر الجمعة الماضي تعرضت لجلسة تحقيق من نوع خاص: أسئلة محرجة على لسان طفلتي التي لم تكمل السادسة. كنا نقطع الطريق من مدينة حمد باتجاه جزيرة سترة، ثالث الجزر المأهولة بالسكان في أرخبيل البحرين، بعد أن تلقيت عدة اتصالات من داخل المسيرة الشعبية، وأجريت عدة اتصالات مع آخرين داخلها أيضا لمعرفة ما يجري من عدة مصادر، ولذا توجهت نحو المسيرة. أول ما لفت نظر ابنتي الصغيرة منظر شاحنات قوى الأمن الكبيرة على بعد نحو كيلومتر واحد من مدخل سترة، ولفت نظرها أكثر لباس الشرطة الأزرق الذي تراه لأول مرة في حياتها. وتحولت هذه الجولة إلى جلسة تحقيق قاس، وتحولت السيارة إلى زنزانة من زنزانات سجن القلعة، وتولت ابنتي دور الجلاد لتوجعني بسياط أسئلتها القاتلة.
سألتني أولا ونحن نمر أمام قوات الأمن: لماذا يلبسون الأزرق؟
أجبتها محاولا أن أوضح لها الفرق بين ألوان ملابس الشرطة: هناك شرطة يلبسون الأبيض لينظموا المرور لكي لا تصطدم السيارات. وهناك شرطة للقبض على من يسرق بيوت الناس، وهناك شرطة مكافحة الشغب.
كانت كلمة "الشغب" غريبة على أذنها فعادت تسألني: ماذا يعملون "الشغب"؟
أجبت محاولا أن أسهل على ذهنها الصغير هذه التعقيدات "الوطنية" الكبرى: إذا ناس خرجوا في مسيرة مزعجة فان الشرطة توقفهم أو تضربهم. "وتحاشيت أن أتذكر ماكان يحدث في السابق وأنهم كانوا يضربون بمسيلات الدموع، لأنها ستسأل مرة أخرى عن معنى "مسيلات" أولا، و"الدموع" ثانيا، وعلي مرة أخرى أن أوضح معنى الكلمتين معا، من حرق للعيون وسقوط للناس في الشوارع واعتقال العشرات لأخذهم إلى المعتقلات بعد ضربهم بالهراوات، ولم أرد أن أشرح لها طريقة التخفيف من آثار الغازات الكيماوية على العين والتنفس باستخدام البصل، وأن هذه الطريقة لم تفيد المواطنين الضحايا مع الأنواع التي استخدمت في عمليات سابقة لضرب المواطنين لأنها منتهية الصلاحية منذ سنوات!".
قالت مستغربة ببراءة الأطفال: يضربونهم؟ يعني هم مجرمين؟
كيف أخرج من هذه الورطة! قلت محاذرا الوقوع في فخ آخر: لا يا ابنتي، ليسوا مجرمين. "وخارج النص أضيف: أقسم بالله انهم ليسوا مجرمين ولا خائنين للوطن ولا يعرفون وطنا آخر غير هذا البلد".
كنا قد وصلنا في هذه اللحظة إلى مدخل سترة الأول من جهة ألبا، وكانت سيارة المرور تمنع دخول السيارات، فيضطر الناس إلى إيقاف سياراتهم بعيدا والتوجه إلى الداخل مشيا على الأقدام. المدخل الثاني كان مفتوحا فدخلت منه، ووجدت نفسي أدور في حلقة دائرية مغلقة بين عدد من المصانع والمخازن والشركات، حتى وجدت نفسي أمام الشارع الرئيسي مرة أخرى.
وعادت تسأل "بلهجتها": اذن لماذا يخرجون في مسيرة؟
ونظرت إلى السماء أناجي الله في عليائه: يا رب أنزل علي جوابا من عندك! فهل يمكن أن تشرح لطفلة بريئة أن هذه مسيرة شعارها "الإصلاح الدستوري أولا"! وفي هذه الحالة ستعود لتسألني: وما معنى الشعار؟ وما معنى الإصلاح؟ وما معنى الدستوري؟ بل وما معنى "أولا" أيضا! ومن كل سؤال سيفتح باب لثلاثة أسئلة أخرى، ولن ننتهي من هذا التحقيق إلا بعد منتصف الليل!
عدت لأجيبها: الناس يسوون مسيرة لأن بعضهم ما عندهم بيت، وبعضهم ما عنده شغل وبيزات.
سألت مستغربة: فيه ناس ما عندهم بيت أو شقة؟
- نعم، وفيه ناس ما عندهم فلوس يشترون بها أكل وملابس. قولي الحمد لله يا ابنتي.
مع هذا الجواب، صمتت البنت فأخذت أتنفس الصعداء، أظنها أخذت تفكر في هذا العالم الذي لم يكن يخطر لها على بال، ناس ما عندهم أكل ولا ملابس، كيف يعيشون إذا!
كنت قد وصلت إلى مدخل جزيرة النبيه صالح، فقلت لنفسي: لنصل المغرب في مسجد هذه الجزيرة الجميلة الهادئة، ومادام قد بقي عن الأذان عشر دقائق، فلآخذها إلى البحر لعلها تنسى صورة الشرطة بلباسهم الأزرق، وليحل منظر البحر مكان الشاحنات الرابضة من بعيد، لكي لا تنام الليلة وتستيقظ تحت وطأة الكوابيس.
أسئلة بريئة، لم أعثر على أجوبتها إلا بشق الأنفس. حاولت أن أكون صادقا معها ومع نفسي. ولكن أين هذه الأسئلة البريئة من طاحونة الكتابات التي بدأت تجعجع لتطحن عظام الوطن. مسيرة مهما اختلفنا بشأنها إلا انها كانت سلمية. فلماذا هذا الانفلات غير المسئول في التصريحات؟ ولماذا هذا التحريض المكشوف على قضية داخلية بحتة، وربطها بالأطماع الخارجية والأجنبية؟ أم هل تأبى الصحافة إلا أن تلعب دور "حمالة الحطب"... وترفض إلا أن يكون في جيدها حبل من مسد؟ إن لم يكن للصحافة في هذا البلد دين، فلتكن حرة في دنياها
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 934 - الأحد 27 مارس 2005م الموافق 16 صفر 1426هـ