العدد 931 - الخميس 24 مارس 2005م الموافق 13 صفر 1426هـ

"تسييس العلوم"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في غمرة الهجوم الأميركي على المسلمين والعرب تحت مسميات مختلفة نمت مدرسة "تسييس العلوم". فهذه المدرسة استغلت التصعيد العنصري - الثقافي ضد الإسلام لتمرير سلسلة قرارات خطيرة لم تقتصر على منع ارتداء الحجاب في المدارس الرسمية الفرنسية، وحظر بث قناة "المنار" الفضائية بتهمة اللاسامية وانما امتدت لتطاول الجامعات الأميركية والأوروبية. فالحملة وصلت ذروتها بعد ضربة 11 سبتمبر/ ايلول 2001 ونجحت في منع الطلبة العرب والمسلمين من التسجيل في حقول تتعاطى شئون العلوم المختبرية والفيزيائية والكيماوية وغيرها من قطاعات طبية وبيولوجية.

الذريعة السياسية كانت هي منع تخريج "ارهابيين" في المستقبل يتعلمون في جامعات الغرب ويعودون إلى بلدانهم لاستخدام علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها لصنع قنابل وصواريخ تهدد الجنس البشري بالإبادة.

لم يقتصر التمييز العنصري - الثقافي على هذه العلوم "الخطيرة" بل شمل الحظر أيضا منع الطلبة العرب والمسلمين من التسجيل في حقول لها صلة بالطيران صناعة أو قيادة. والذريعة السياسية التي استخدمها هذا التوجه العرقي - النازي ضد المسلمين كانت ضربة 11 سبتمبر أيضا. فالتيار العنصري تخوف من ان يتحول طلبة مدارس ومعاهد الطيران إلى مجموعات إرهابية تقود الطائرات وتغير مسارها وتضربها في مؤسسات وهيئات مدنية.

الحملة إذا كبيرة جدا وهي تستفيد من تداعيات 11 سبتمبر لتمرير خطط غايتها خنق التطور الإنساني - العلمي في العالمين العربي والإسلامي بذريعة مكافحة الإرهاب ومحاربة الاستبداد والفساد. فقادة الحملة لا يذكرون مثلا ان المتهمين في قيادة طائرات 11 سبتمبر ليس لهم علاقة بالطيران ولم يدرسوا أو يتدربوا على هذا النوع المتطور من الطائرات. فالتهمة الملقاة حتى الآن ان بعضهم درس فنون الطيران على الأرض في أندية ومحلات عادية ولساعات قليلة وليست كافية لقيادة طائرة ضخمة ومتطورة تكنولوجيا وتغيير مسارها من بوسطن إلى نيويورك وضرب مبنى بدقة متناهية.

التيار العنصري لا يتطرق إلى هذه التفصيلات ولا يتفحص عمليا تلك المعلومات والاتهامات. فالمشروع أكبر وهو يقضي بتجهيل الفاعل ودفع المنطقة نحو المزيد من الجهل والتخلف بذريعة محاصرة الإرهاب ثقافيا. والحصار يبدأ بتجفيف ينابيع العلوم المعاصرة وقطع التواصل بين العرب والمسلمين وحقول المعرفة العلمية.

وحتى تكتمل صورة الهجوم انتقل التيار العرقي النازي من سياسة منع العرب والمسلمين من التسجيل أو تحصيل علوم الغرب إلى سياسة فرض وصاية على الدول المسلمة ومراقبة برامج التربية والتعليم وإلغاء حصص الدين وصولا إلى إلغاء مدارس تحفيظ القرآن. وهذا ما أخذت بعض تلك الدول تستجيب له تحت الضغوط، وممارسة سياسات التهديد والوعيد ما اضطر اليمن مثلا إلى إلغاء أو وقف 1400 مدرسة من تعليم أو تحفيظ القرآن الكريم.

المعركة إذا كبيرة وهي شاملة وتتناول مختلف جهات وجبهات في الخارج والداخل. وكل ذلك يتم باسم "الحرية" و"حقوق الإنسان" و"الشفافية" والتقدم والتنمية وغيرها. والسؤال: كيف يمكن التوصل إلى تطبيق تلك الشعارات البراقة إذا حرمت الأجيال العربية - المسلمة من حق تعلم العلوم العلمية، وعزل الإنسان عن ثقافته وضرب روح هويته؟

المسألة إذا متناقضة. والتناقض يكشف الحقيقة وهي ان الهدف تعطيل إمكانات التقدم واحتمالات التطور عن طريق "تسييس العلوم".

موضوع "تسييس العلوم" خطير للغاية لأنه ينطلق من حوادث منعزلة يتهم بها المسلمون لتستغل عنصريا "ثقافيا" ويعاد ربطها لتشكيل حلقة تستخدم للضغط على الأنظمة "الخائفة على نفسها" وإرهاب شعوب المنطقة وتخويفها من سجل لا تتحمل مسئوليته.

فكرة "تسييس العلوم" ليست جديدة فهي مرتبطة دائما بمعايير التقدم والتخلف. إلا ان الدول المعاصرة "الأوروبية - الأميركية" أخذت باستخدامها لتمرير مشروعات لها صلة بحرب الحضارات تحت مسميات ثقافية. فالإسلام برأي قادة هذه الدول منبت الإرهاب، وثقافته تشجع على العنف والقتل وبالتالي فالمشكلة مع هذا الدين وأساس هذا الدين هو القرآن الكريم. وحتى تنجح الدول في منع الإرهاب من الانتشار لابد من محاصرة ثقافة الإرهاب ومنبع تلك الثقافة هو القرآن الكريم وبالتالي فإن حجر الزاوية في تلك الحرب الحضارية "الثقافية" هو منع دروس الدين وإلغاء مدارس تحفيظ القرآن.

هذه هي الحلقة الجهنمية التي تدور حولها منظومة الحرب الثقافية على الإسلام والمسلمين. ونقطة بيكار تلك الحلقة هو ذاك الكتاب الجامع الذي يشد الشعوب والقبائل والأقوام إلى مركز تتولد منه تلك الشعائر والعادات والتقاليد التي تدفع نحو التوحد وتقلل من عناصر التفرق.

معركة "تسييس العلوم" تستهدف في النهاية القرآن الكريم وهي بدأت ولن تستقر إلا بعد ان تتم محاصرة القرآن وعلومه وما يصدر منه من عناصر تعزز الممانعة وتشد الهوية إلى ثقافة متميزة مدعومة بتاريخ طويل من الأطوار الحضارية.

المشكلة ليست هنا. هذه نصف المشكلة. النصف الآخر نجده في تلك الأصوات والأقلام والمدارس والتيارات التي تقتات من ذاك التيار العرقي - النازي، وتعيد إنتاج مقولاته العنصرية - الثقافية للتهجم على مقومات الأمة وأصولها باسم مستقبل مجهول وغير مضمون النتائج. فهذه الفئة الضالة تعمل على تسهيل مشروع "تسييس العلوم" من دون وعي "وربما بوعي منها" لمخاطر نزع الهوية عن جماعة بشرية. فنزع الهوية "وهو من الأمور الصعبة وربما المستحيلة" يعني في نهاية المطاف تعطيل العقل الجمعي وذر الأمة إلى فرق وأهواء وتيارات متنازعة لا تتعارف على بعضها وتتدافع على قشور وأمور ليست هي الجوهر الصحيح في تصحيح الأخطاء وسد الثغرات وتطوير الشعوب.

استراتيجية "تسييس العلوم" خطرة. فهي تبدأ من حوادث متفرقة وتعيد ربطها لتشكيل نقاط ارتكاز للهجوم على الأمة ليس في الخارج فقط "منع العرب والمسلمين من نيل المعرفة العلمية"، وإنما في الداخل أيضا "مراقبة برامج التربية والتعليم وإلغاء مدارس تحفيظ القرآن". وهذا الأمر إذا استمر وتواصل فسيزيد من نسبة الجهل والامية وبالتالي سيؤدي إلى مزيد من التطرف والعنف والإرهاب.

"تسييس العلوم" استراتيجية استئصالية وهي في النهاية ستدفع الأمة نحو زاوية الضياع. والضياع يولد الحاجة إلى الثأر والانتقام بحثا عن هوية محاصرة وممنوع عليها ان تعبر عن سماتها الثقافية الخاصة.

ربما تكون هذه خطط مراكز العلوم ومعاهد البحوث الاستراتيجية. فتلك الاتجاهات العنصرية - الثقافية تبحث دائما عن اعداء وأحيانا تساهم في انتاجهم حتى تبرر وجودها ودورها وتعطي لمؤسسات الحروب ذريعة للإنتاج والتصريف.

ربما تكون هذه خطط المعاهد والمراكز التي تلبس لبوس "الحريات" و"الحقوق" و"الشفافية"، ولكن هل تعلم أدوات هذه المعاهد والمراكز بالمخاطر السلبية التي ستنجم عن تلك الاستراتيجية؟

"تسييس العلوم" هو سلاح دمار شامل أخذت الجامعات والمعاهد تشهره من دون حياء في وجه المسلمين باسم المعرفة والمستقبل والتطور والتحديث، بينما المنطقة تحتاج إلى نوع آخر من التعامل تستحقه شعوبها لفرط ما ارتكب بحقها من ظلم واستبداد ومنظومة قهر استوردت أدواتها ومعداتها من المصادر نفسها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 931 - الخميس 24 مارس 2005م الموافق 13 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً