هكذا تقع الحوادث عبر الزمن. في غمضة عين تلتهم النيران مخازن شركة كبرى في البلاد، وتأتي على ما فيها، وتستمر النيران ثلاثة أيام، يكافحها أكثر من مئة من رجال المطافىء والدفاع المدني، الذين عاشوا في استنفار كبير.
والرجل المصاب في ماله أحد أعيان البلد ورجالها الصالحين، الحاج عبدعلي عيسى الدعيسي، بدأ قبل خمسين عاما، تاجرا بسيطا، وبجهده وعرقه واجتهاده، بنى هذه الشركة الكبرى التي تمون الكثير من المطاعم والشركات بالمواد والاحتياجات. وطوال خمسين عاما، لم يغادر موقع عمله أو يعتمد على الآخرين في إدارته، فليس هناك من هو أحرص على حفظ المال وتنميته من صاحبه، نموذج قلما نجده في هذا الجيل الباحث غالبا عن الراحة والدعة والاسترخاء.
وهو يقف على رأس شركة كبيرة، لم تنقبض يده عن مساعدة الفقراء والمحتاجين في هذا البلد، فضلا عن تموينه المساجد والمآتم في المناسبات الدينية، وبعض المؤسسات الدينية والمشروعات الثقافية. الذين يعملون في الصناديق الخيرية يعرفون ذلك جيدا، فقد كان يساهم في إعالة بعض الأسر في كثير من المناطق، ويرفع عن كاهل الصناديق الخيرية بعض أعبائها. وكثيرا ما كان يسمع وهو يردد شعاره الأثير باستمرار: "دعوا الجياع يأكلون".
وفي مشروعات الحقيبة المدرسية التي توزع على طلاب الأسر الفقيرة، كان يقدم أعدادا من الحقائب بمحتوياتها، ليغطي جزءا مهما من هذه الاحتياجات. وفي مجال الدراسة الجامعية كان يساعد الطلاب أيضا.
قبل ليلتين من الكارثة التقاه أحد العاملين في صندوق خيري، فطلب منه أن يمده بأسماء أسر محتاجة إضافية من منطقته ليقوم بالواجب تجاههم، فجهز صاحبنا قائمة تحوي أسماء عشرين عائلة فقيرة ليأخذها إليه، ولكن الحريق كان أسرع... وكان أمر الله قدرا مقدورا.
الصدق كان من مفاتيح نجاحه في السوق، والحصول على ثقة ومحبة الجمهور. كانت تكفيه كلمة من شخص ثقة يزكي أحدا ليساعده، وكان سؤاله المختصر: "أليس ثقة"؟ وكفى... من دون مماطلة أو تسويف.
المال الذي كان يبطر الكثيرين، لم يكن يثنيه عن مشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم، ومعاملتهم بالتواضع وزيارة المرضى في المستشفى. في ليلة الحادثة بالذات، كان في زيارة للمرضى من بينهم الشيخ حسن زين الدين "ره" وهو على فراش المرض، اذ كانت تلك الليلة الأخيرة له في الدنيا، فقد اختاره الله إلى جواره.
المال يأتي ويروح، والنعمة لا تدوم، والمؤمن محط البلاء، على أن مثل هذا الرجل إن خسر شيئا كثيرا من ثروته، فإنه كسب حب الناس وتعاطفهم وثقتهم، وفوق ذلك ما ادخره الله له من ثواب جزيل لأياديه البيضاء وعطفه على عباد الله، وعدم منعه الحقوق التي أوجبها الله في أموال الأغنياء للسائل والمحروم. هكذا ظننا به، وظننا بربنا أجل وأكبر، أنهضه الله من عثرته، وزاده من فضله، وآتاه خيرا مما أخذ منه. ويبقى الخير والذكر الجميل
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 931 - الخميس 24 مارس 2005م الموافق 13 صفر 1426هـ