العدد 930 - الأربعاء 23 مارس 2005م الموافق 12 صفر 1426هـ

الشرطي والمرأة

الوسط - محمد الرديني 

تحديث: 12 مايو 2017

تمتاز كل ليلة من ليالي عطلة نهاية الاسبوع في هذه البلاد بالصخب والضجيج وهي عادة ما تكون فرصة امام الجميع مراهقين وكبارا لأن يفرغوا شحناتهم وضغوطهم النفسية بعد عمل استمر اكثر من 50 ساعة في الاسبوع.

البارات والنوادي والمراقص تعج بالشباب والشابات، يرقصون الرقصات نفسها ويغنون الاغاني نفسها، وربما يتحدثون الاحاديث نفسها. تبدأ العطلة الاسبوعية مساء يوم الجمعة وما تكاد الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلا حتى يتهافت الشباب على النوادي الليلية وقبل ان يصلوا الى بوابة اي ناد يكونون قد اكملوا رقصتهم المعتادة في الشارع العام، الكل يرقص. بعضهم يرقص وحيدا على أمل أن يجد مرافقته في هذه الليلة ومنهم من يرقص مع صديقته الجديدة التي وجدها هي الأخرى ترقص لوحدها في الشارع العام قبل ان تصل برفقته الى النادي الليلي.

في كل ليلة من هذه الليالي يغنون الاغاني نفسها ويرقصون الرقصات نفسها بل حتى انهم يرون الوجوه نفسها تقريبا، وكنت اعتقد ان اغانيهم ورقصاتهم في اعياد رأس السنة ستكون ذات طابع خاص، ولكني كنت مخطئا، فها هي الرقصات نفسها والاغاني نفسها وكأن السنة الجديدة لم تمر بعد.

في ليلة من تلكم الليالي - كما تقول العرب - كانت الساعة الثالثة فجرا، كنت آنذاك اقل زبونا الى حيث بيته حين استوقفتني سيارة شرطة ونزلت منها شرطية لا تتجاوز العشرين من عمرها، حيتني كانها تعرفني منذ زمن وقالت: "إني آسفة ياسيدي اذ اقول لك انك تجاوزت السرعة المحددة في هذا الشارع".

ضحكت في سري حين سمعت كلمة "سيدي".

قلت وانا مازلت جالسا في سيارتي، وراكب شاب يجلس الى جانبي وهو يحضن شريحة البيتزا:

"اني آسف بدوري فلم اكن اقصد ان اقود بسرعة".

التفتت الشرطية الى الراكب وقالت له:

"اني متأسفة سيدي لاني سأؤخرك عن تناول عشائك".

رأت رخصة القيادة التي ارجعتها لي بعد ثوان وقالت ناظرة الينا نحن الاثنين:

"يمكنك أن تذهب وأرجو الا يتكرر ذلك".

ثم اعقبت ضاحكة:

"وحتى لايتأخر زبائنك عن تناول طعامهم".

تذكرت في ذلك اليوم احد الزملاء الصحافيين الذي كتب عمودا في الصحيفة التي يعمل فيها جعل له عنوان "شرطي قال لي شكرا ذات يوم".

لا اريد هنا ان اقارن ولا أريد أن ابخس قيمة ناسنا كما قد يعتقد البعض، كل ما في الامر ان موظفي الحكومة في بلادنا العربية لا يعرفون كيف يلفظون كلمة "شكرا" لماذا...؟ صدقا لا أعرف.

الشرطي والمرأة في بلادنا العربية كائنان معجونان بالظلم الى حد النخاع، فالشرطي لا يصبح كذلك الا بعد ان تنعدم امامه كل وسائل العيش الاخرى، وهو رجل اراد ان يكمل تعليمه مثل بقية البشر السويين ولكنه لم يستطع، وهو شاب طموح اراد ان تكون له وظيفة مثل غيره فلم يسعفه الحظ، واراد ان يحلم مثل الآخرين فوجد طريقه ملأى بالكوابيس. والشرطي الذي جعلته انظمة العالم المتمرن عنوانا للامان واحترام القوانين، جعلته الانظمة العربية رمزا للسخرية والقمع والاستبداد والجهل والغباء على رغم النص الخاص بالقسم الشرطي الذي تراه مشنوقا على كل حيطان ادارات واقسام ومؤسسات الشرطة التابعة لوزارات الداخلية في الدول العربية والذي اتحدى اي شرطي عربي "او غير عربي ممن يعملون في بلدان الخليج العربي" قد قرأه وحتى اذا فعل ذلك وهو امر اضطراري فانه سيقسم باغلظ الايمان لزوجته او صديقه المقرب انه لم يفهم شيئا مما قرأه، واذا وجدت شرطيا مرحا فانه سيقول لك وهو يضحك: ربما كنت اقرأ احد المعلقات السبع.

ولو اتيح لي ان اقاضي جهة ما فأول ما أفكر فيه هو السينما المصرية التي جعلت من الشرطي برميل غباء متنقل لا يفقه من الحياة سوى ضرب زوجته والطاعة الغبية لمرؤسيه والضحك من دون سبب.

حينما كنا صغارا كانت امهاتنا تهددنا بالشرطي اذا طلبنا شيئا فوق طاقة مصروفها اليومي، حتى اذا كبرنا اصبحنا نختبئ في الازقة المظلمة اذا شاهدنا شرطيا قادما صوبنا.

والمرأة هذا الكائن الذي لو طلب من رب العزة ان يطيل عمره اضعاف ما يعيش لكان طلبا يسيرا. فالمرأة تصل الى سن العشرين وهي لا تعرف شيئا من الدنيا الا ما تقوله لها امها او خالتها مزودة اياها بقائمة طويلة عريضة من الممنوعات واللاءات التي تبدأ بالمحافظة على الشرف والنوم مبكرا والعودة من المدرسة مباشرة الى البيت وعدم البصبصة على سطح الجيران.

ولا تحتاج - هذه الطفلة ذات العشرين ربيعا - الى جهد كبير لتعرف ان هذا البيت الذي تعيش فيه ما هو الا سجن تتوافر فيه جميع الشروط الواجبة لذلك والتي تبدأ بالسجان الذي يصدر قائمة الاوامر اليومية والاخ الصغيرالذي يدربوه ليكون عنصر مخابرات حاسم حين يرافق اخته الى اي مكان خارج السجن والاب الذي اقل ما يقال عنه انه الممثل الشرعي للدكتاتورية المصغرة.

جملة اعتراضية: هل يا ترى منبع الدكتاتورية العربية قادم من هذه الدكتاتورية المصغرة؟

لا أدري. ولا يكن امام هذه "السجينة" سوى التفكير بالهرب من سجنها ، وبالتأكيد هي لا تملك الشجاعة لتقدم على هذه الخطوة فهناك الاعراف والقوانين الصارمة خارج السجن اضافة الى التعرض للقتل وهو امر يبيحه القانون.

وتضيق الحلقة حولها ولم تعد كل وسائل الهرب ممكنة الا وسيلة واحدة: الزواج.

وتكون تعزيتها الوحيدة داخل سجنها هي البحث عن مواصفات فتى الاحلام ، كيف ستكون لون بشرته، انها بالتأكيد لا تريده شبيها لابيها او اخيها المخابراتي، انها تريده طويلا نحيفا ليس اسمر الوجه ولا أبيضه، ضحوك بشوش يكره الجلوس في البيت، بل وانه يكره كل برامج التلفزيون وخصوصا نشرات الاخبار، لا يدخل غرفة نومه الا ليلا لينام ولا يجلس بالصالون الا لكي يتحدث عن السفرات التي سيقوم بها في الصيف المقبل واذا عاد من العمل فاول ما تسمعه منه هي تلك الضحكة الرنانة والقبلة السريعة على الخد ثم سرد التفاصيل وتفاصيل التفاصيل عما حدث اليوم من قصص وحكايات ونوادر في القسم الهندسي الذي يشرف عليه او غرفة العمليات حيث اجرى وهو الجراح المشهور عملية جراحية استأصل فيها زوائد دهنية من العينين.

وتأتي الساعة، وتقفز الام والعمة والخالة فرحات ينطنطن في ساحة البيت وهن يزفن البشرى الى العروسة فقد جاء العريس.

ويقفز قلب البنت من بين ضلوعها بل يكاد يطفر امامها، لقد حان وقت الافراج وانتهت مدة المحكومية. ولأول مرة ترى اباها يبتسم لها وهو يسألها عن رأيها بالعريس الذي لم تره بعد، تخفض عينيها خجلا وخفرا، هكذا علمتها عمتها، ويخرج بعد ان فهم القصد من هذه الاشارة.

وتمر الايام بطيئة... متى يأتي العريس، تسأل امها التي ترد عليها بعصبية ظاهرة: "عيب يابنت لاتفضحينا امام الناس".

ولم تفهم لماذا الفضيحة، كل الذي سألته هو عن موعد زيارة العريس المرتقب. ويأتي اليوم الموعود، دق العريس الباب بعد ان رأت والدها متجهم الوجه وحين سألت امها عن السبب قالت لها: "لا يجوز ان يفرح الاب بهذه المناسبة خصوصا امام العريس الذي سيعتقد - اي العريس - ان البنت "بايرة ولا احد يسأل عنها والاكيد ان بها عيبا عضويا او جسديا والا لماذا يبدو الاب سعيدا هكذا"".

وللمرة الالف او بعد الالف لم تفهم البنت سبب كل ذلك على رغم شروحات الام المطولة بمناسبة او غير مناسبة. وتأتي لحظة تقديم الشاي وقبل ذلك تفحص نفسها أمام المرآة للمرة العشرين، وهناك عشرون مرة أخرى من حصة الأم ، وعشرون ثالثة للعمة او الخالة، ويدخل الاب متجهما يحث النساء على الاسراع اذ لايجوز ان يجلس العريس منتظرا.

وتدخل العروسة تكاد تتعثر في مشيتها بينما استطاعت بالكاد ان تمسك صينية الشاي التي لا تدري لماذا لم تسقط من يدها حتى الآن، تضع الشاي على الطاولة وتهرول راكضة نحو الباب وتسمع ابيها وهو يضحك مزهوا بابنته التي رباها على الخجل والحياء.

انتهت مراسم الزيارة بسرعة او هكذا خيل اليها على رغم انها لم تستطع ان تجيب صديقاتها الحاضرات في ذلك اليوم عن الاسئلة التي انهارت عليها: ما هو شكل العريس؟ هل هو جميل كم يبلغ من العمر، ماذا يعمل ؟ ماذا كان يلبس؟ هل هو انيق؟ وشعره هل سرحه على "الموضة" الجديدة ام...؟

كل الذي فعلته بعد ذلك هو احتضان رأسها بين يديها، وكان ذلك جوابا شافيا لكل الاسئلة لانها ببساطة لم تستطع رؤية العريس. وكيف يتسنى لها ذلك وعينا ابيها ترمقانها بعصبية وتوتر... كيف ذلك وانها لا تجرؤ ولن تجرؤ ان تضع عينيها امام عيني هذا الغريب الذي يسمونه عريسها حتى على الأقل تعرف من هو وكيف هو وما هو؟

بعد ساعات من الاجتماعات المغلقة بين الام والاب في غرفة النوم ، يخرج الاب مبتسما الى حيث تنزوي العروسة، تذهب هي اليه حذرة، يقول لها بشيء يشبه الحب: "ما رأيك بالعريس؟". تسكت... يجب عليها ان تسكت، اذ ليس من المعقول ان ترفض او تجيب من اول وهلة، هناك قنوات يجب ان يعبر رفضها او قبولها عبرها، هناك امها وخالتها وبالتأكيد لن يكون احد هذه القنوات ابوها.

سمعت اباها يقول: "إنه شاب جيد، ان حدسي لا يخطئ واعتقد انه طموح، انه يعمل الآن في سلك الشرطة لان عائلته فقيرة جدا وهو يريد ان يكمل دراسته الثانوية والجامعية بعد ان تكوني معه".

تسكت العروسة مرة اخرى بل انها ستسكت طالما ان اباها يقف امامها هكذا. يتراجع الاب خطوات نحو باب البيت ليخرج الى مقهاه المفضلة وبالتأكيد سيحدث اصدقاؤه عن هذه المناسبة.

لا تستغرق المفاوضات بين الام وابنتها سوى فترة قصيرة تتم بعدها الموافقة وتبدأ الاستعدادات لاقامة الافراح ومناقشة تفاصيله.

في ليلة "الدخلة" تدخل العروس لترى شابا تعرف من النظرة الاولى انه يكبرها بسنوات، يبتسم لها، يزيح اكليلها بخفة ويقودها نحو الفراش.

في الصباح نهضت متعبة رأته يبتسم لها وقال لها "مبروك"... لم تمض ساعة حتى جاءت امها وسألتها: "ما هذا الاصفرار على وجهك؟" لم تحر جوابا او بالحقيقة لا تعرف الجواب بالضبط ولكنها تعرف ان امعاءها بل وعضلات جسدها تؤلمها بشدة. دخل العريس وأومأ للام باشارة خاصة ولم تمر ثوان حتى ضج البيت بزغرودة الام: ابنتها باكر.

تمر الشهور وتجد العروس نفسها حاملا، تحس بفرح داخلي واحساس بالسعادة لا تعرف مصدره. انها ستصبح اما، سيأتي ابنها او ابنتها، لا يهم ولكنها تدرك تماما انها ستسقيه حبا لا تعرفه البشرية الا عند الامهات... ولكن ماذا يمكن ان تعطي لوليدها غير الذي اعطته لها امها او خالتها...؟

وتدور الرحى بلا قمح ولا شعير





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً