أشاع أشقاؤنا الجزائريون تفاؤلا كبيرا، سبق استضافتهم للقمة العربية، باعتبارها قمة الصحوة والاصلاح معا.
وقد كنا نود ان تكون على مستوى الموجة ذاتها فنتفاءل بقمة وصفت بأنها مصيرية، ككل قمة سبقتها، لكن الكلمة فقدت معناها، لأن مصير الأمة وما يتعرض له من تحديات جسام، لم يلق الاهتمام الكافي حتى الآن.
وها هي قمة العرب في الجزائر تختتم اعمالها اليوم بصورة روتينية أو هي أقرب، بعد ان توارى التحدي الأعظم الذي توجهه الأمة خجلا، ونعني به تحدي الاصلاح الشامل لأوضاع عربية مزرية، صارت موضع شكوى الشعوب العربية، أكثر مما صارت موضع نقد وهجوم الدول الأخرى وخصوصا "الدول الصديقة والحليفة" الممتدة عبر التحالف الأطلسي من أوروبا القديمة والجديدة الى أميركا البعيدة!
في مواجهة ذلك كنا نتوقع ان تفاجئنا قمة الجزائر بمبادرة عربية جديدة، هي مبادرة الاصلاح العربي الشامل النابع من ارادتنا والمعبر عن اصرارنا على تحديث وتطوير أوضاعنا البالية، تماما كما فاجأتنا قمة بيروت العام 2002 بمبادرة السلام العربية، التي صارت اليوم مرجعا لتسوية الصراع العربي الاسرائيلي وشاهدا على ركوب العرب قطار الصلح والتسوية مع "إسرائيل" بمباركة أميركية أوروبية!
سيقول قائل ان قمة تونس في العام الماضي، اصدرت "المبادرة الاصلاحية" للتطوير والتحديث والعهد، وها هي قمة الجزائر الحالية تؤكد العهد والالتزام من جديد، فلماذا المطالبة بمبادرة جديدة، لماذا التوقع أصلا؟!
والحقيقة انه على رغم احترامنا لقول القائل، فإننا نعرف ان وثيقة تونس في العام الماضي جاءت في ظروف ضاغطة باتت أسرارها مكشوفة، حين مارست الولايات المتحدة ضغوطها القاسية على الدول العربية لاجراء اصلاحات ديمقراطية، في اطار المشروع الاميركي الشهير "الشرق الأوسط الموسع" بشقيه الحربي عن طريق مكافحة الارهاب ومحاربة الارهابيين عبر افغانستان والعراق وغيرهما، وعن طريق فرض "الوصفة الغربية" للديمقراطية على هذه الشعوب التي تخلفت تحت نظم استبدادية فاسدة فافرخت الارهاب والارهابيين.
كانت اميركا تستعد لعقد قمة الدول الصناعية الثماني في ولاية جورجيا، لاقرار مشروع الشرق الأوسط الموسع ليصبح مشروعا غربيا ودوليا وليس اميركيا فقط، ليكتسب مزيدا من القوة والتأثير فأرادت بعض الدول العربية ان تستبق هذا السيناريو ربما بتنسيق مع أميركا أو من دونه لتعلن مشروعا اصلاحيا تتبناه القمة العربية التي كان مقررا عقدها خلال مارس/ آذار 2004 في تونس، ثم تأجلت لخلافات عن هذه الخطوة، بين من يريد اصلاحا ذاتيا مستقلا عن الضغط العربي، ومن يرى انه لا مفر من الخضوع للوصفة الغربية للاصلاح.
في هذا المناخ الضاغط من الخارج والضاغط من الداخل، والمرتبك بل غير المتفق أصلا على أسس الاصلاح ومداه، أهدافه وأساليبه، صدرت على عجل وثيقة العهد للتحديث والتطوير عن قمة تونس، حاملة نوايا عامة، من دون التزامات عملية محددة داخل برامج تنفيذية واضحة... فجاءت ذرا للرماد في العيون!
وعلى رغم مضي نحو العام على هذه الوثيقة، وثيقة النوايا الاصلاحية، لا نكاد نشعر بانجاز واضح أو اصلاح جذري جرى على الساحة العربية، اللهم الا النزر اليسير، لا نكاد نرى دولة عربية واحدة اقدمت بجسارة على تطبيق مشروع اصلاحي متكامل وخصوصا في المجال السياسي، بمعنى اطلاق الحريات والغاء حالات وقوانين الطوارئ وممارسة تداول السلطة، واجراء انتخابات عامة نزيهة، وانما نرى شذرات متناثرة تسمى اصلاحا ديمقراطيا، وهي في الحقيقة ترجمة عملية للعبة "خطوة للأمام، خطوتان للخلف"، وهي لعبة لم تعد تخدع أحدا في الداخل المتمرد أو في الخارج الضاغط.
نعم هناك اشارات ايجابية صغيرة، حدثت منذ وثيقة قمة تونس، حتى قمة الجزائر، عبرت بشكل من الاشكال عن محاولات مترددة لإقتحام الاصلاحات الديمقراطية المطلوبة، ابتداء من انتخابات فلسطين والعراق "التي جرت تحت الاحتلال الصهيوني والأميركي" حتى الانتخابات البلدية الجزئية في السعودية "مع حرمان النساء تصويتا وترشيحا" مرورا بمظاهرات متعارضة في لبنان "المنقسم على ذاته بسبب الدور السوري" وانتهاء ببدء تعديل المادة 76 من الدستور المصري، للسماح بانتخابات رئيس الجمهورية عبر التصويت العام المباشر بين اكثر من متنافسين "من دون التطرق بالتعديل الى مواد أساسية أخرى مثل تحديد مدة الرئاسة وصلاحيات الرئيس"!
نعم هذه كلها ابرز الاشارات المتناثرة المعبرة عن "نوايا الاصلاح" في الدول العربية الموقعة وثيقة قمة تونس للتحديث والتطوير، ونظن ان النتائج وايقاع التنفيذ واتساع زوايا الاصلاح، ان كانت على قدر هذه الاشارات المتناثرة فإن الاصلاح الذي تريده شعوبنا "قبل ان تفرضه أميركا وأوروبا" لن يأتي قبل سنين عددا... بينما الزمن لا ينتظر والوقت لا يسمح بمزيد من المماطلة والتلكؤ في منطقة صارت الأشد تعرضا لممارسة الضغوط الدولية، لأنها بصراحة الأكثر هشاشة وضعفا وقابلية للضغط والاختراق وفرض الانصياع بعد ان فقدت بسبب التخلف والفساد والاستبداد، عوامل القوة الذاتية، واضاعت قواعد السيادة الوطنية، وتخلت حتى عن فكرة الاستغلال لصالح الاستعمار العائد بقوة فولاذية!
لأسباب كثيرة كنا نتخيل ان نشخص الهمة داخل القمة، فتطلق مبادرة عملية لإصلاح أحوال الأمة التي تئن وتتوجع من فرط التخلف، وتتطلع بالتالي نحو اصلاحات جذرية تتجاوز "وثيقة النوايا" السابق اقرارها في تونس، لتلتقي مع تطلعات الشعوب واصرارها على طرق أبواب التقدم، والتي بدأت فعلا اللجوء الى الشارع والساحات في استعراض أولي للتحدي المزدوج... تحدي النظم الحاكمة وتحدي الضغوط الاجنبية.
لكن من يقرأ ويتابع بيانات قمة الجزائر وأعمالها ومناقشاتها وقد أفصح الخطاب مبكرا عن عنوانه منذ الاجتماعات التحضيرية للخبراء والوزراء يكتشف ان القمة لم ترتق للأسف الى مستوى هموم الأمة، ولم تستطع ان تدرك حجم التحديات الرهيبة المحيطة بنا من كل جانب فاكتفت بعموميات قرأناها عشرات المرات من قبل خمس وثائق القمم السابقة، طبقا لجداول أعمال روتينية لا تكاد تتغير مثل دعم صمود الشعب الفلسطيني ولبنان، ومساندة سورية والسودان، ومساعدة الصومال وجزر القمر، وتطوير آليات عمل الجامعة العربية... الخ وكلها للأمانة موضوعات مهمة ولكن الأمور استجد فيها جديد وكثير من التحديات أبرزها طبعا أمر الاصلاحات الديمقراطية الشاملة التي لا يريد احد التعرض لها بعمق وجرأة لأنها تعني أول ما تعني تعديل مفاهيم وأساليب نظم الحكم، وتقنين علاقة الحاكم بالمحكوم، وضمان عدالة توزيع الثروة القومية، وتحرير المواطن من عبادة انصاف الآلهة!
ونكاد نتسمع صدى الشارع العربي المنتفض والمتمرد علنا من نواكشوط غربا الى بغداد شرقا، مرورا بالقاهرة وبيروت ودمشق، يسأل قادته لماذا لم تتفقوا على مبادرة اصلاحية ديمقراطية حقيقية، تعبر عنا وعنكم، تنقذكم من هجمة الاصلاح الاوروأميركي وتضعنا وتضعكم على بداية طريق التقدم والاستفاقة، لماذا؟
لماذا هذا التخلف الذي وضع أكثر من نصف العرب تحت خط الفقر، ولماذا اكثر من تلث الدول العربية تعاني الندرة الشديدة في المياه، ولماذا متوسط دخل الفرد في ثلثي الدول العربية يتراوح ما بين 500 دولار و1500 دولار سنويا، بينما هو في "إسرائيل" 18 ألف دولار، ولماذا مجموع الناتج القومي لكل الدول العربية أقل من دولة واحدة هي اسبانيا؟!
لماذا يحظر ثلث الدول العربية قيام الاحزاب السياسية، ويضيق الباقي الخناق عليها، ولماذا تفرض 19 دولة عربية من بين 22 دولة، قيودا مشددة على حرية الرأي والتعبير والصحافة وصولا للعقوبات السالبة للحرية، وخصوصا عقوبة الحبس للصحافيين والكتاب ولماذا يصل عدد الاميين العرب الى 70 مليونا.
لماذا الاعتياد العربي العام على اللجوء إلى قوانين الطوارئ والقوانين الاستثنائية لكتم حريات المواطنين، ولماذا توصم كل الانتخابات العربية "ان جرت" بالتزوير، ولماذا الاصرار على حرمان المرأة "نصف المجتمع" من حقوقها السياسية، وخصوصا في التصويت والترشيح بل في الوظائف الرئيسية والمناصب البرلمانية حتى ان مصر أول دولة عربية عرفت البرلمان منذ ،1866 مازال تمثيل المرأة في برلمانها الحالي نحو 2 في المئة فقط؟
لماذا جميع الدول العربية مرصودة في السجل السيئ للتقارير الدولية والعربية عن حقوق الانسان وممارسة الحريات العامة والحكم الرشيد، ما ادى الى وضع المجموعة العربية كاملة، خلف مجموعة دول جنوب شرق آسيا، ومجموعة دول أميركا اللاتينية؟
لماذا أصبحنا وحدنا المتهمين الاول وبلا منازع في عالم اليوم، بالارهاب والتطرف والفساد والاستبداد المطاردين في كل مكان؟
والأهم... لماذا تخلينا عن حق السيادة والاستقلال، لماذا تدار جميع ازماتنا العربية، حلا وتعقيدا بعيدا عنا وفي غيبة من رأينا، وان حضرنا فمن أجل التجميل والتلوين والتسهيل والتخليص وها هو "القرار الاجنبي" وحده ينفرد بإدارة أزماتنا، في فلسطين والعراق، في سورية ولبنان، في جنوب السودان ودار فور في غربه، في الصومال والصحراء الغربية، في أمن الخليج بل والأمن القومي والوطني بمفاهيمه الاستراتيجية الشاملة.
من يدير ويتدخل ويفرض الحل أو يسعى إلى لتعقيد؟... أظن ان الاجابة واضحة عند كل مواطن بسيط في اي قرية عربية، فما بالكم بقادتنا الذين يملكون كل خيوط المعرفة ومصادر المعلومات ومراكز الخبراء وكتائب المستشارين المحليين والمستوردين، بعد ان صار الاستيراد المطلق عنوانا على مدينة الاندماج في العولمة، وليتنا اذا نستفيد من خبرة العولمة ونتاجها الايجابي!
قد تكون الصورة قاتمة تدفع نحو مزيد من الاحباط لكنها الحقيقة المرة، وهناك فرق بين السقوط في براثن الاحباط وصوره القاتمة، وبين قراءة الحقيقة بكل ألوانها، فاذا كانت الشعوب تعاني بعض الاحباط وتغالب براثنه وتقاوم فخاخه، فهي معذورة الى حين، لأنها تئن تحت ضغوط تحالف الفقر والقهر في الداخل، من ناحية وتحت سنابك التحديات الأجنبية الهاجمة من الخارج من ناحية أخرى وكلاهما مر. فهل كانت شعوبنا واهمة، حين تخيلت ان قادتها المجتمعين في قمة الجزائر سيصدرون وثيقة اصلاح جذري شامل، ببرامج عمل تنفيذية واضحة، تزيح عن وجه الأمة كل هذا الكدر والعبوس والاحباط!
أم ماذا... إنه ماذا...
خير الكلام
قال تعالى: "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" "11: الرعد"
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 929 - الثلثاء 22 مارس 2005م الموافق 11 صفر 1426هـ