عندما كنت في الغربة أرى عين أمي فأرى الوطن، كان صوتها في الهاتف متهدجا يذكرني بتراب أرض وبقصة نخلة يبست عروقها، في وشاحها أرى شراع سفن الحزن غصت بها المرافئ، دموعها في يوم عيد تجعل للحزن مذاقا وللألم حسرة. ولما عدت إلى الوطن بعد طول غياب، وركبت الطائرة عائدا إلى تراب الوطن بعد عشر سنوات من الغربة على الطائرة ذاتها التي طردت فيها كانت صورة أمي تحلق أمامي كحمامة تطل من النافذة... في الطائرة كنت أردد الشطر الأول من بيت المتنبي، داعيا الله أن أنسى الشطر الثاني وأن يطيل الله عمرها:
أحن إلى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثواها التراب وما ضما
وحلقت الطائرة في مطار البحرين، واغرورقت عيناي بالدموع لأرى عين أمي، وسارع قلبي قبل قدمي، وعندما رأيتها في المطار هي وأبي حضنتهما... وكأن لسان حال أمي ينشد أنشودة مظفر النواب من قصيدة "الأم":
يا بني ضلعك من رجيته
لضلعي جبرته وبنيته
يا بني خذني لعرض صدرك
واحسب الشيب اللي من عمرك جنيته
يا بني طش العمى بعيني
وجيتك بعين القلب أدبي على الدرب إلمشيته
يا عمد بيتي وقمر ليلي وربيع الشيب والعمر الجنيته
"فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن" "طه: 40"... هنا فقط يعرف الإنسان قيمة الأم وقيمة الأبوين... وتذكرت شكسبير الذي كان يردد: "ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم".
هذه هي الأم، وكم من أم رحلت عن الدنيا حزينة كسيرة لفراق ابنها... وكم من أم قدمت ربيع حياتها لأبنائها، وبعد أن انفتحت لهم الدنيا ألقوا أمهم وراء ظهورهم، أتعتقدون أن أولئك سيوفقهم الله... ومن ظلم أبويه سيرعف له الزمن بأبناء يظلمونه... تراه متخما بالأموال، وفي الضفة الأخرى ترى أمه تتكفف الناس باحثة عن قطعة خبز تسد بها رمق جوعها... وكم من إنسان فظ ألقى بأبويه في دار العجزة فلا يسأل عنهما... بعد طول ليل وسهر في نرجسية عالية يصرخ: "أنا وأولادي وزوجتي وما بعدي الطوفان".
لو أن كل واحد منا وقف أمام ضميره "المحكمة الداخلية" فأي حكم يريد وهو يسمع صوت الله وبين عينيه دموع أمه الفقيرة الكسيرة ذلك الملاك الذي سهر ليالي ليطعمنا الحياة... ماذا سيقول وهو يسمع الله "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن" "لقمان: 14"، لماذا يوصي الله بها؟ وهل حفظنا الوصية؟... "وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير" "لقمان: 14"، وكيف يقترب شكر الله وشكر الوالدين كل هذه المسافة؟ تلك حقيقة حب الأم الذي لا يشيخ أبدا مهما قسا الزمن، ومن فقد أمه فقد أبويه. ورحم الله جبران خليل جبران الأديب الكبير عندما يقول: "إن أعذب ما تتفوه به البشرية هو لفظة الأم، وأجمل مناداة في الوجود هي أمي، كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالحب والأمل والعطف وكل ما في القلب البشري من الرقة والعذوبة". بعضنا إذا كبرت أمه استثقل أن يحضر لها الدواء مخافة أن يكلفه ذلك عشرة دنانير، وفي شهر رمضان يصرخ قارئا القرآن: "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما" "الإسراء: 23". من سيحمل حمامة الحب والسلام ليخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ويقول بعمل جاد "وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" "الإسراء: 24"؟
بالأمس جمدت كل أعمالي ورحت سوق المنامة لأشتري لست الحبايب هدية، وليست هنالك هدية تساوي قيمة الأم. دخلت مجوهرات "الخليجية" واشتريت لها خاتما... ركبت السيارة ووصلت منزل الوالدة... استقبلتني كالعادة، قبلت رأسها ويدها وقلت لها اغمضي عينيك... أغمضت عينيها ووضعت الخاتم في إصبعها، فقلت افتحي عينيك ففتحت عينيها ورأت الخاتم فقبلتني واحتضنتني ودمعت عينها وقالت: "الله يخليك يا بعد عمري"، قلت لأمي: "أنت أغلى ما في الوجود، أنت العمر كله... كل اللي انعيشه من توفيق من خيرش يا ست الحبايب...". خرجت من عندها وأنا سعيد لأني أعرف مدى القيمة المعنوية التي تعيشها أي أم أو أي أب عندما يشعران أن أبناءهما يبرونهما.
لو سألنا أنفسنا: كم سيكلفنا خاتم صغير؟ 30 أو 40 دينارا... هل ذلك كثير على أم تزرع على شفتيها ابتسامة الرضا والسعادة وهي على كبر سن؟ دعونا نقدم إلى أمهاتنا في هذه الأيام هدايا تعكس حبنا لهن.
وأختم بقصيدة رمزية أسطورية تعكس مدى عطف الأم وحنانها على ابنها ولو قسا عليها:
أغرى امرؤ يوما غلاما جاهلا
بنقوده حتى ينال به الوطر
قال: ائتني بفؤاد أمك يا فتى
ولك الدراهم والجواهر والدرر
فمضى وأغمد خنجرا في صدرها
والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فرط سرعته هوى
فتدحرج القلب المضرج إذ عثر
ناداه قلب الأم وهو معفر
ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
فكأن هذا الصوت رغم حنوه
غضب السماء به على الولد انهمر
فاستل خنجره ليطعن نفسه
طعنا ليبقى عبرة لمن اعتبر
ناداه قلب الأم: كف يدا، ولا
تطعن فؤادي مرتين على الأثر
إلى أمهاتنا في الحياة... إلى أمهاتنا في الجنان، نقول: إليكن نهدي ألف تحية
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 928 - الإثنين 21 مارس 2005م الموافق 10 صفر 1426هـ